23 ديسمبر، 2024 5:24 ص

قد أكون الأول في قول ذلك، وربما لم يصدقني أحد، حين أتهم كلباً بالخيانة، هو الوحيد من بين الحيونات الأليفة يفتخر بتلك الصفة، حتى أنه يرفض أن يقارن به الإنسان الخائن، وبشدة، و سمعنا آلاف الحكايات عن ذلك، ومن  لا يحتفظ بحكاية أو عدة حكايات عن إخلاص الكلاب ؟ 
حتى التأريخ الأدبي رسخ ذلك فينا، بحكاية الشاعر علي بن الجهم مع المتوكل العباسي ، و تلك القصة التي تروى أن الشاعر كان بدوياً صحراوياً، عندما قدم إلى بغداد لأول مرة، آثر أن يبدأ عهده بمدح خليفتها

المتوكل على عادة الشعراء في ذلك الزمن، فأنشد : أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُدْ        

 وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ

أَنتَ كَالدَلوِ لا عَدِمناكَ دَلواً        

  مِن كِبارِ الدِلا  كَثيرَ الذَنوبِ

أدرك المتوكل حينها حسن مقصده، مع خشونة لفظه، و رأى أن ما شبهه به آت من عدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، فيها بستان جميل …..وما يخصنا من تلك الحكاية، وفاء الكلب حتى شبه به الخلفاء ، و أنا أقول عكس ذلك، والسبب مرهون بأن معاشرة الكلب الزائدة للإنسان قد أفسدت أخلاقه، وشوهت الوفاء لديه، فأخذ عنه صفة الفضولية، تلك صفة دميمة وذميمة لكنها لا تصل حد الخيانة، بل قادت هذا الكلب المسكين إليها دون أن يحس …. هو كلب خلوق ، هاديء الطبع  وفيُ جداً، كغيره من الكلاب وربما أكثر، أحبه صاحبه كثيراً، والجميل لا يكتمل، خصه الحظ العاثر بصفة الفضول، أن يسعى خلف أي صوت يسمعه، مهما كان، وفي يوم سمع صوت زغاريد في القرية المجاورة، ركض نحوها بفعل الفضول، قضى في ذاك العرس وقتاً جميلاً، ولا يعلم ما يخبئ له القدر، فالقدر بالمرصاد لمن لا ينتبه، أن يكون صاحب العرس عدواً لدوداً لصاحب الكلب….. انتصف الليل ولم يعدِ الكلب ، فهو منشغل  بتلك العظام الدسمة، من وليمة ذلك العرس، ومشاركة الكلاب هناك بالعربدة والفرح، جعله منغمساً تماماً بالجرم  والإيغال بمعاداة ولي نعمته، وكلما تأخر هناك، زادت درجة جرمه، وقلت نسبة وفائه،  سأل الرجل عنه، قيل أنه غائب عن الأنظار منذ غياب الشمس، ظل صاحبه الوفي قلقاً عليه، منتظرأ في باب الدار، حتى ساعات متأخرة، بعد منتصف الليل، و عاد الكلب يترنح مترعاً بالسعادة  والشبع، في ليلة مقمرة يكاد ضوءها أن يكشف إبرة في الأرض ، فكيف يخفي خيانه، استقبله صاحبه غاضباً : -” أين كنت أيها الكلب الغبي…!”  أجاب  الكلب ضاحكاً ‘يحاول أن يمتص غضب صاحبه: -” كنت في عرس…!”  اشتد غضب صاحبه كثيراً وقال بصوت مرتفع، وكأنه شك بشيء: -” أي عرس ….؟ تكلم بسرعة…..!” خاف الكلب كثيرأ من موقف صاحبه، ورد بصوت مرتعش: -” عرس في القرية المجاورة ….!” أدرك صاحبه أن العرس في القرية المجاورة يخص ابن عدو لدود له، وقد حضر هذا الكلب عرس عدوه، فغضب كثيراً، حتى كاد يخرج من ملابسه حنقاً وقال: -” أيها الكلب الخائن، كيف تجرؤ أن تصافح يد عدوي….!؟” 

رد الكلب بخوف، سامحني يا سيدي، أنا أعلم أنه عدوك، لكني حاولت الذهاب إلى هناك لمجاراة كلابهم لتخفيف حدة العداء بيننا، بعد مشاركتهم أفراحهم، حتماً  سيقل نباح كلابهم علينا، على الأقل….!؟ رد صاحبه بعنف أكثر : -” ذلك لا يجعلني أثق بك بعد اليوم، ولا ينجيك  من عقابي لك جراء خيانتك….!” صاح الرجل على رجاله، وأمرهم بسجن ذلك الكلب، حتى ينظر في أمره غداً

 وقال: -” احبسوا هذا الكلب الخائن، وشددوا الحراسة عليه….!” نفذ الرجال الأمر في الحال، وحبسوا الكلب في مكان مظلم منعزل، ومنعوا الأكل عنه حتى ينفذ فيه أمر سيدهم، وفي صباح اليوم التالي، أمر الرجل طبالاً أن يقف على تلة في نهاية القرية، وأمر  زماراً  أن يقف في التلة المقابلة في نهاية القرية الأخرى ، والمسافة بينهما على مد مرأى البصر، حوالي خمسة كيلو مترات تقريباً ، وجلس هو وحاشيته في وسط المسافة بين التلتين، وأخرجوا الكلب من السجن، أشار الرجل للطبال ليقرع الطبل، فركض الكلب نحو صوت الطبل، بدافع الفضول ، وحين وصل ،

أشار الرجل للزمار في الجهة الأخرى، فركض الكلب نحو صوت المزمار قاطعاً تلك المسافة الطويلة، استمر الرجل على هذا الحال والكلب يركض من جهة إلى أخرى، من الصباح حتى المساء، وقع الكلب من التعب ست مرات وقام واستأنف ممارسة فضوله القاتل، في المرة السابعة وقع على الأرض دون حراك، فقال الرجل : -“افحصوه ، فقد مات، قد خانني حتى روحه السابعة، وهذا جزاء من خان …تباً لزمن طالت الخيانة فيه الكلاب….!”