نادراً ما يكون قلب المرء غديرَ ماءٍ، وليس من النادر أبداً أن يكون القلب نهراً أو بحراً حتى، فمن المعلوم أنَّ في غدير الماء خاصِّيةً ليست في النهر ولا البحر، وهي أنه يشكِّل علامةً فارقةً بالنسبة لعلاقة الإنسان بالحياة، بمعنى أنه لابثٌ إلى الأبد في ذاكرة الحياة.
لنقل إنَّ بين القصيدة وغدير الماء علاقةً ما، علاقةً لا تنفصم عراها أبداً، لأنها تشبه العلاقة الحميمية التي توجد بين الغيث والعشب أساساً، لكن بربِّك أيها الشاعر، هل وثقت بقصيدتك يوماً كما تثق بالحبيبة مثلاً، أم أنك تقاربها دائماً كما لو أنك معها على فراش العهر، فإذا ما نلت بغيتك منها لم تعد تحظى عندك بما للحبيبة من المنزلة، وبناءً على ذلك تنبذها كما لو أنها زنت في فراش غيرك بدافع الشهوة الآثمة التي تستحقُّ عليها عقوبة الرجم بطبيعة الحال.
لا أصدِّق أنَّ الشاعر قادرٌ على هدم الوجود وإعادة بنائه كما يشاء، فلقد تمثِّل هذه الفكرة سفسطةً لا تحتمل في نظري الخاصّ، بل حتى لو فرضنا أنَّ اللغة بيت الوجود كما يعتقد هايدكر، فإنَّ الشاعر ليس سيِّد اللغة كما يتوهَّم، لأنَّ للغة وجوداً سابقاً على الدوام بالنسبة للشاعر، لكن مع ذلك، يمكن أن يقال إنَّ للشاعر سلطةً أخرى غير هذه، فهو الكائن الوحيد الذي يقدر أن يرتفع بمحتوى الذاكرة إلى مستوى ما يوجد في هيكل العبادة، وبهذه الطريقة يستطيع أن يجعل العالم كلَّه ساجداً على رغم أنفه في هذا الهيكل، فلا ينظر الوجود إلى نفسه بعد ذلك إلا بصفته قلباً تسكنه آلهة الشاعر ليس غير.
الشعراء كهنة المعنى، هذا صحيحٌ، لكنهم يخونونه بلا تردُّدٍ كذلك، فإن قيل عن الشاعر إنه كاهنٌ فلا تتوقَّعوا منه الإخلاص لمعبوده إطلاقاً، وليس في ذلك ما يجرح المكانة المرموقة للشاعر، فلو أنه اختار أن يكون مخلصاً للمعنى لما استحقَّ منزلة الكهانة في معبد المعنى أصلاً، فالشاعر هو الكائن الوحيد الذي يرتقي كثيراً في سلَّم التكامل عن طريق الخيانة تحديداً، فعلى قرائه أن يحيطوا علماً بهذه الحقيقة، لئلا يفقدوا صفة النباهة التي يتوجَّب توفُّرها بشكلٍ استثنائيٍّ في جمهور الشاعر، فإن كان جمهور الشاعر بليداً إلى حدِّ أنه عاجزٌ عن اقتناص هذه الحقيقة، فليس أمام الشاعر من حلٍّ لمعضلة سوء الفهم إلا الإنتحار.
عندما يصبح المرء شاعراً تتغيَّر معالم جسده كلُّها من الرأس حتى أخمص القدمين، وبالإمكان ملاحظة ما يجري على جسده من التغيُّرات من خلال ما يأتي:
1- يكون لرأسه منازل القمر تماماً، فيكون هلالاً أوَّلاً، ثمَّ يتدرَّج حتى يصبح بدراً، ثمَّ يضمحلُّ حتى يعود هلالاً مرَّةً أخرى، ثمَّ يدخل في المحاق، وهذا بالضبط ما يجعل الشاعر كثير الشبه بالكوكب المنير في الليلة الظلماء، وإلا فإنه من بني آدم بالتأكيد، وليس لبني آدم غيره علاقةٌ ما بخاصِّية الكوكب المنير على الإطلاق.
2- يكون لسانه شبيهاً بجهنَّم، من جهة أنه لا يتردَّد بالتهام الذنوب، أي إنه يعيد تخليقها من جديدٍ، حتى تتحوَّل فضَّةً في النقاء، أما ذنوب الشاعر ذاتها، فإنها تتحوَّل تبراً خالصاً، حتى تلتحق بكوكبة الأنبياء، فإذا ارتقت ذنوب الشاعر إلى هذه المنزلة، ناداه جبريل من السماء السادسة، أن تقدَّم إلى السماء السابعة، فاتخذ لنفسك مكاناً مع واحدةٍ من زمرّدات العرش، فتلألأ أمام ملائكة السرمدية هناك.
3- يتحوَّل قلب الشاعر إلى بحرٍ مسجورٍ، مسجورٍ بالعشق طبعاً، حتى إذا ما دنا يوم القيامة، وصار الحشر واقعاً ملموساً بالنسبة إلى الخلائق طرّاً، أخرج صحيفة أعمال القلب، فإذا بالنساء لسن هنَّ المقصودات فعلاً بعشق الشاعر، بل المقصود هو العشق نفسه، وهذه هي الخاصِّية الرئيسية لعشق الشاعر، فلا تبتهج أية امرأةٍ في العالم إذا ما سمعت شاعراً يتغزَّل بالنساء على هذا الأساس.
4- بقي أن أتحدَّث عن جوف الشاعر، فلا شكَّ أنَّ جوفه حافلٌ بالأمم المذبوحة أو الأمم الثكلى، والغريب أنَّ الأمم الثكلى في جوف الشاعر لا تبكي، بل تضحك تضحك كثيراً كثيراً، حتى أنَّ الناظر إليها يتخيَّل أنها في حفل زفافٍ دائم، والحقُّ أنَّ الأمم الثكلى تفضِّل الضحك على البكاء من باب أنَّ الضحك يمثِّل قمَّة المأساة في نظر الشعراء بالذات، وهذا يعني أنَّ الشعراء يتجنَّبون الغموض حتى في سبل التعبير عن الحزن العميق على المدن المذبوحة من الوريد إلى الوريد، فإياك أيها القارئ أن تتَّهم شاعراً بالجنون أو مجانبة اللياقة في مثل هذا الموقف، وإلا فستكون فاقداً للكثير من النباهة، ومتَّهماً بالبلاهة إلى أبعد حدّ.
2- المصير إلى الغواية كان مقصوداً بالنسبة إلى آدم
لا أشاء أن أقف حجر عثرةٍ في طريق الموت، إذ على الرغم من أنَّ الشاعر قادرٌ على تحقيق معجزة الحياة إلى الأبد، فإنَّ الشعراء النابهين منهم في الأقلِّ يعلمون أنَّ للموت فلسفةً لا تقلُّ روعتها عن روعة الحياة، ولك أن تتخيَّل أنَّ هوميروس، أو المتنبي، أو شكسبير لم يروا في الموت معنىً يتفوَّق على معنى الحياة، فهل كانوا يستحقّون منا كلَّ هذا العناء، الجواب كلا بالتأكيد، فما ان يتعمَّق المرء معنى الحياة حتى يكتشف حقيقة العلاقة بين هذين الوجودين الملتحم أحدُهما بالآخر، فلك أن تقول إنَّ الموت بذرة الحياة، ولك أن تقول إنه ثمرتها اللذيذة الناضجة كذلك، أمّا من جهتي، فأنا أعتبر الموت ذروة النضج بالنسبة إلى هذا الجسد عندما يشاء أن يتحوَّل روحاً، فلا يعود الجسد مكوَّناً من العظم واللحم والدم، بل يعود الجسد روحاً، روحاً فقط، وإنَّ في هذا التحوُّل معنىً فائقاً جدّاً، يجعل فكرة الإعتقاد بوجود الإله فكرةً في غاية الضرورة، حتى بالنسبة إلى أولئك المادِّيِّين الذين يتقزَّزون كثيراً من حديث الأنبياء.
الآن عليَّ أن أتعمَّق معنى ما جرى على آدم، فلقد كان ضائقاً ذرعاً بفكرة الحياة إلى الأبد، هذا ما فهمته من قصَّته الواردة في النصوص الإلهية المقدَّسة، صحيحٌ أنَّ آدم لم يكن راغباً بأن يعصي أمر الإله، لكنه كان يريد أن يختطَّ مساراً آخر للحياة، مساراً يبدأ من الموت، ويمرُّ بالموت المكرَّر كذلك، ثمَّ ينتهي إلى الموت، لتكون النتيجة النهائية مساويةً من حيث القيمة لمعنى الحياة التي يبتغيها، وهذا ما حصل بالفعل، فلقد أقدم آدم على فعل المعصية، وكان طعم الغواية لذيذاً جدّاً على الرغم من أنَّ لذاذته مستمدَّةٌ من شعوره الفائق بالألم.
كان طعم الثمرة في فمه حامضاً، ومع هذا أصرَّ على أن يزدردها إلى النهاية، وإذ مضغها بأسنانه جيِّداً، ومرَّت عبر مريئه إلى الجوف، تغيَّر تركيب جسده كلُّه، فلم يعد شفّافاً بما يناسب الإقامة في ذلك العالم الفاقد للهوية الخاصَّة، بل صار كثيفاً بما يناسب المادَّة التي جبله الله منها، وكان مسروراً جدّاً بهذا التحوُّل، على الرغم من أنه كان يبطن النيَّة في أن يعود بدنه شفّافاً مرَّةً أخرى، لكن بفعل إحراقه في هذا الأتّون الكبير الذين يسمّونه الحياة، حتى إذا ما اصفرَّ كالثمار في موسم نضجها، انتخى بالموت ليكون هو الذروة النهائية التي ينتقل الجسد من خلالها إلى أن يكون روحاً، روحاً ليست كالروح التي يتحدَّث عن وجودها الفلاسفة في الجسد قبل مرحلة نضجه، فهذه ليست هي الروح التي عناها آدم، لأنها موجودةٌ في جسده منذ البداية، فلا معنى لأن يسعى إلى إيجادها أصلاً، بل روحاً هي من نتاج الطين نفسه، أو قل هي الطين نفسه بعد أن تبخَّرت ظلماته كلُّها، ولم يبق منه إلا النور.