22 نوفمبر، 2024 3:11 م
Search
Close this search box.

خيارات ما بعد نزع فتيل الازمة العراقية

خيارات ما بعد نزع فتيل الازمة العراقية

اشرت الاحداث والوقائع الدراماتيكية السريعة التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد ومعها مدن اخرى، منذ صباح التاسع والعشرين من شهر اب-اغسطس الماضي، وحتى ظهر الثلاثين منه، الى جملة حقائق، لايمكن التغاضي عنها والقفز عليها، عند البحث عن مخارج وحلول واقعية وعملية للازمة السياسية الحادة، التي باتت بنظر الكثيرين تتحرك داخل نفق ضيق ومظلم يصعب العثور على بصيص امل حقيقي فيه.
*الحقيقة الاولى، هي ان ازمة الثقة بين الفرقاء السياسيين العراقيين، كانت ومازالت العقبة الكأداء امام بناء عقد سياسي-وحتى مجتمعي-قوي ومتماسك ورصين، تغيب او تنحسر عنه المشاكل والاشكاليات، وتتسع فيه مساحات وافاق التطور والازدهار والتعايش والبناء. وبدلا من ان تجد ازمة الثقة هذه طريقها الى الزوال مع مرور الزمن ونضج التجربة الديمقراطية حديثة العهد في بلد مثل العراق، لم يعرف طوال تأريخه الحديث الممتد لثمانية عقود، سوى الانقلابات والمؤامرات والحروب والصراعات، فأنها راحت تتمدد وتطغى وتعرقل وتعوق مسارات الحراك الايجابي المطلوب في شتى الجوانب والمجالات الحياتية. ومجمل ما نشهده اليوم في الشارع وكواليس السياسة هو مصداق ودليل واضح على ذلك.
*الحقيقة الثانية، وهي بشكل او باخر تعد نتاجا للحقيقة الاولى، وتتمثل في ترسخ عقلية المحاصصة والمغانم والتغالب بين الفرقاء، لتكون مخرجاتها ومعطياتها ونتائجها، الضعف المتنامي لمنظومات الدولة لصالح المنظومات الاخرى السياسية والعسكرية الحزبية والعشائرية، والتفاوت الطبقي، والاستئثار والاحتكار، وبالتالي شيوع الظلم والاهمال والحرمان بحق فئات وشرائح اجتماعية واسعة وعريضة.
*الحقيقة الثالثة، تتمثل بوجود الاطراف والاجندات والمشاريع والعوامل الخارجية المؤثرة والمتحركة والفاعلة، والمتقاطعة فيما بين بعضها البعض في المشهد العراقي. وقد كان لطريقة اسقاط النظام السابق في ربيع عام 2003، وخضوع البلاد للاحتلال الاميركي، اثرا كبيرا في خلق بيئة سياسية وامنية واجتماعية حافلة بكل مظاهر وظواهر الفوضى والتخبط والاضطراب.
هذه الحقائق وغيرها، كانت حاضرة وبقوة بأشكال وصور مختلفة في مجريات احداث يومي 29 و 30 اب-اغسطس الماضي.بحيث يمكن النظر اليها والتعاطي معها على انها نتائج ومخرجات من جانب، واسباب ومقدمات لنتائج ومخرجات محتملة ومتوقعة من جانب اخر.
وفي حال اعتبرت نتائج ومخرجات لما سبقها، فحينذاك، من الطبيعي جدا ان يكون الصدام المسلح، ايا كانت اطرافه ومحركاته ومحفزاته، الذي كانت ميدانه الرئيسي المنطقة الخضراء بتحصيناتها الامنية المشددة، وطابعها السياسي الخاص، من حيث وجود المؤسسات الحكومية العليا فيها، والمفاصل الحساسة، وعدد غير قليل من البعثات والهيئات الدبلوماسية. من الطبيعي جدا، ان يكون ذلك الصدام المسلح، خيارا او ورقة من اوراق الفعل السياسي، بعدما بدت الخيارات والاوراق الاخرى عقيمة وغير مجدية بالنسبة لبعض الفرقاء في تحقيق رؤاهم وتصوراتهم واهدافهم.
وحتى لانبتعد كثيرا، فأن ما حصل الاسبوع الماضي في المنطقة الخضراء وسواها، لايخرج عن سياق كل الاشكاليات التي رافقت وتبعت الانتخابات البرلمانية الاخيرة في العاشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر 2021، اي قبل حوالي عام. فالانتخابات بنتائجها الجدلية المشكوك فيها من جهة، وغير الحاسمة من جهة اخرى، ولدّت احتقانات حادة كبيرة، لاسيما بين قوى وتيارات المكون الشيعي، وهي احتقانات لم تكن وليدة اللحظة، وليست عابرة ولا سطحية، وانما قديمة وعميقة وكبيرة، واكد ذلك، فشل واخفاق كل الجهود والمساعي الداخلية والخارجية لاحتوائها وتطويقها، وبدلا من يكون هناك نوع وقدر من التنازلات المتبادلة، كان هناك قدرا كبيرا من التشدد والتصلب الذي افضى الى انسداد سياسي خطير، لينتهي الى صدام وصراع مسلح، بدا للجميع انه يمكن ان يتسع ويكبر ليتحول الى اقتتال اهلي واسع النطاق.
ومثلما تسبب قرار زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر باعتزال العمل السياسي نهائيا بعيّد الانتقادات الضمنية الموجهة له من المرجع الديني اية الله العظمى السيد كاظم الحائري، بتفحر الاوضاع، فان توجيهاته الصارمة فيما بعد لاتباعه بوجوب انهاء التظاهرات والاعتصامات، والانسحاب من البرلمان وعموم المنطقة الخضراء في غضون ستين دقيقة فقط، بسبب مظاهر العنف واستخدام السلام وخروج التظاهرات عن سلميتها، ساهمت في نزع فتيل الازمة وتطويق الفتنة التي كادت ان تاتي على الاخضر واليابس معا.
ولتوخي الدقة، فانه من المهم التنويه الى ان اعتصام اتباع التيار الصدري امام مجلس القضاء الاعلى قبل حوالي اسبوعين، والتهديد باقتحامه، مثل مرحلة خطيرة ومقلقة جدا من التصعيد، استشعرتها مختلف الاطراف، لتبادر الى التعبير عن ردود افعال سريعة وقوية وواضحة، بعضها كان معلنا وبعضها الاخر لم يخرج من حدود الكواليس والاروقة والقنوات السرية، ربما تكون قد صدمت وفاجئت زعيم التيار واربكت حساباته، لتدفعه للاسراع بالايعاز الى اتباعه بالانسحاب من مجلس القضاء والاكتفاء بمواصلة الاعتصام امام البرلمان.
يخطأ من يتصور ان ازمة شائكة ومعقدة، وخلفياتها ومسبباتها واسقاطاتها كثيرة وكبيرة، يمكن ان تطوي صفحتها قرارات وتوجيهات صارمة وانفعالية لزعيم التيار في لحظة مفصلية حرجة وخطيرة، لسبب بسيط يتمثل في ان ظروف وعوامل وبيئة الازمة لم تتبدل، ولا يبدو انها ستتبدل خلال الامد الزمني المنظور.
فمن غير الواقعي ولا المنطقي تصور اعتزال الصدر العمل السياسي بصورة نهائية، ولاتصور ان التيار الصدري يمكن ان يختفي ويتلاشي، او حتى ينزوي بعيدا عن مسرح الاحداث، وهو الذي يمتلك قواعد شعبية لايستهان بها، تمتاز بالطاعة والولاء غير التقليدي.
وفي ذات الوقت، فأنه من غير المنطقي تصور، حلّ وحظر الفصائل المسلحة، سواء المنظوية منها تحت مظلة الحشد الشعبي، او تلك التي هي خارجه، او تذويبها وصهرها في بوتقة المؤسسات الامنية الاخرى كوزارتي الدفاع والداخلية. ليس هذا فحسب، بل ان المراهنة على تفكك الاطار التنسيقي وتشضيه لم تعد مجدية، حتى وان تباينت وتقاطعت بعض مواقف وتوجهات القوى المكونة له.
السيد الصدر عاود كتابة التغريدات التي من خلالها يطرح مايراه من افكار ورؤى وتصورات وانتقادات وملاحظات، وكذلك فعل وزيره صالح محمد العراقي، الذي اعلن بعد بيان اعتزال الصدر، اغلاق حسابه على منصة التواصل الاجتماعي (تويتر)، بيد انه سرعان ما استأنف اطلاق التغريدات ذات الطابع السياسي الحاد والمباشر.
وبموازاة ذلك، فأن مظاهر العنف المسلح لم تختفي بالكامل، بل انها استمرت بشكل او باخر، بصورة اغتيالات واستهدافات لمكاتب ومقرات حزبية، وصدامات بين مجاميع مسلحة تنتمي الى جهات سياسية متخاصمة، كما حصل في محافظة البصرة، بحيث دفعت الاتحاد الاسيوي لكرة القدم الى اتخاذ قرار بنقل تصفيات بطولة اسيا للشباب التي كان مقررا اقامتها في الثامن من شهر ايلول-سبتمبر الجاري في البصرة الى دولة الكويت.
الى جانب ذلك، فأن لغة التصعيد والتحشيد والتسقيط الاعلامي المتبادل، وان اختفت او انحسرت رسميا، كما دعت الى ذلك مختلف الاطراف، الا انها بقيت على حالها تقريبا في العديد من منصات التواصل الاجتماعي والحسابات والصفحات الوهمية والمزيفة والمجهولة الانتماء.
وفي خضم وذروة الازمة، لوح رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي بالتنحي والاستقالة فيما لو استمرت حالة التناحر بين الفرقاء السياسيين، اذ قال في كلمة وجهها للشعب العراقي بعد اقل من يوم على الصدام المسلح، “أحذر من هنا إذا أرادوا الاستـمرار في إثارة الفوضى، والصـراع والخلاف والتناحر وعدم الاستماع لصوت العقل، سأقوم بخطوتي الأخلاقية والوطنية بإعلان خلو المنصب في الوقت المناسب، حسب المادة 81 من الدستور، وتحميلهم المسؤولية أمام العراقيين، وأمام التأريخ”.
وتنص المادة 81 من الدستور العراقي على انه “اولا: يقوم رئيس الجمهورية مقام رئيس مجلس الوزراء عند خلو المنصب لأي سبب كان..
ثانيا: عند تحقق الحالة المنصوص عليها في البند (اولا) من هذه المادة يقوم رئيس الجمهورية بتكليف مرشح آخر بتشكيل الوزارة خلال مدة لا تزيد على خمسة عشر يوماً ووفقا لأحكام المادة (76) من الدستور”.
وسواء كان الكاظمي جادا في تلويحه بترك المنصب، او اراد منه الضغط على الفرقاء من اجل حلحلة الامور، فأنه في كل الاحوال يعني مزيدا من الارباك للرافضين والمؤيدين والداعمين له على السواء، مع اهمية الاشارة هنا الى ان حجم الضغوطات على الكاظمي باتت كبيرة جدا، ونطاق المشاكل والازمات اتسع كثيرا، الى الحد الذي اخذ الاخير يشعر بأنه عاجز عن التحكم بمسارات الامور ولو بقدر معين، ولم تعد مبادراته واجتماعاته مع القوى السياسية المتكررة تجدي نفعا.
ولعل مختلف القراءات الاستشرافية لاتنطوي على مؤشرات ايجابية او ملامح للحل والحلحلة، وان أي خطوات يقدم عليها الاطار التنسيقي، حتى لو كانت بالتنسيق مع شركاء وحلفاء الصدر السابقين من الاكراد والسنة، لن يكتب لها النجاح، ما لم تحظى ولو بالحد الادنى للقبول من الصدر، وهي قد تعيد تحريك وتدوير عجلة الشارع من جديد، وكما قلنا في مقال سابق، “ليس بأمكان اي طرف السير والتقدم بخياراته بعيدا عن الطرف الاخر، وان الاصرار والتشبث بالمواقف والمطاليب والتوسل بورقة الشارع، يمكن ان يقطع الطريق على الخصم، لكنه لايمكّن صاحبه من تحقيق ما يريده ويرغب به ويخطط له”، ونفس الشيء بالنسبة لمن يريد الاحتكام الى الدستور ويتجاهل حراك الشارع ومفاعيله.
خلاصة القول، ان اي خيار لن يكتب له النجاح، بدون اقترانه بأعادة بناء الثقة، وتجنب السير بنفس مسارات المحاصصات والترضيات والمساومات السابقة، وبدون ذلك، لاحلّ البرلمان، ولا الانتخابات المبكرة، ولا استقالة رئيس الوزراء، ولا اعتزال الصدر، يمكن ان تنهي الازمة وتفتح مغاليقها الموصدة.
————————–
*كاتب وصحافي عراقي

أحدث المقالات