دأبت الأمم والحضارات والدول جميعها في مراحل تطورها، على عملية تعد من أولويات العمليات المحلية الضرورية، والتي لاغنى عنها في وضع الأسس وجداول الأعمال والخطط الفصلي والسنوية والخمسية والعشرية على حد سواء، تلك هي عملية التعداد العام للسكان. إذ تجري بلدان العالم النامية والمتقدمة، مسحا سكانيا بشكل دوري (كل عشر او خمس سنوات)، تعد من خلاله قاعدة بيانات عن طبيعة نمو المجتمع، وتحدد على ضوئه نسب شرائحه حسب العمر والجنس والقومية والديانة والمهنة، والحالة الاجتماعية والعلمية والاقتصادية، الأمر الذي يسهل مهام السلطة التشريعية في تشريع القوانين المناسبة، والسلطة التنفيذية في تطبيق القوانين والقرارات بشكل ينسجم مع الأرضية العددية للسكان، وكذا الأمر بالنسبة للسلطة القضائية، إذ ستكون أمامها فسحة من الخيارات، تعتمد عليها في توزيع دوائر العدل في المناطق حسب ديموغرافيتها. وبالتالي يساعد التعداد السكاني على رسم السياسات المستقبلية للبلد فضلا عن توجهات الحاضر. فالتعداد إذن، هو استقراء مبكر، وحاجة ضرورية لايمكن الاستغناء عنها في حساب ما تحتاجه البلاد خلال عقد مقبل من الزمن، لتغطية احتياجات السكان للخدمات، وكذلك لمعالجة الازمات التي قد تظهر مع زيادة عدد السكان. فتتم -على ضوء المعلومات المتوافرة عن نسبة الزيادة- عمليات بناء المنشآت الإنتاجية والصحية والتسويقية وتوسيع البنى التحتية، وتحديد المرفقات الحيوية المطلوب توفيرها. وكذلك تهيئة المؤسسات التعليمية كي تستقبل الزيادة الحاصلة بفئات الأعمار، وبمعرفة الزيادة السكانية يتحدد التحكم بنسب قبول التخصصات الجامعية، لتهيئة الكوادر التدريسية. هذا كله لايتحقق إلا بمعرفة العدد الحقيقي للسكان، والإلمام بالتغيرات التي تطرأ عليه، وعليه أيضا تعتمد التحضيرات وأخذ الاحتياطات لكثير من ضروريات الحياة للشعوب والمجتمعات بشكل يواكب التقدم التكنولوجي والعلمي.
وتطلعنا صفحات التأريخ أن الدول قديما كانت تهتم بمعرفة عدد السكان من اجل تقدير قوتها البشرية في الحروب، وكذلك لجباية الضرائب، وكانت عملية العد تجري بطرق بدائية وبفترات زمنية غير منتظمة. فقد أجري اول تعداد للاراضي والسكان والممتلكات في انكلترا عام ١٠٦٦ كما اجري اول تعداد عام للسكان في الولايات المتحدة الامريكية عام ١۷۹٠وفي المانيا عام ١٨۷١وفي روسيا عام ١٨۹۷وفي اليابان عام ١٨٦١وفي فرنسا ١٨٣٦وفي بلجيكا عام ١٨٤٦وفي الهند عام ١٨٨١.
في عراقنا الجديد صوت مجلس النواب عام 2009 على اجراء التعداد العام للسكان، الا ان إخفاقات مساعي الشروع في ذلك أدت الى تعطيله، ومازال الأمر شائكا بين مناطق ساخنة، وأخرى متنازع عليها، وثالثة سقطت بأيدي عصابات إرهابية، ورابعة تعج بالمهاجرين والمهجرين. وقد قامت الحكومة العراقية منذ تأسيسها بثمانية تعدادات عامة للسكان، كان أولها عام ١۹۲۷ وآخرها عام ١۹۹۷، ومنذ ذاك الحين والبلد يسير على كف عفريت، لاسيما وقد امتلكت زمام أمور سكانه حكومات، مافتئت ترمي كرة التقصير والفشل في ساحة (الرئيس المقبور) و (النظام السابق)، وتخلي ساحتها من سوء الإدارة والإهمال والتسيب والفلتان، والتي أدت مجتمعة بالبلد وسكانه الى ضياع العد والعدد والتعداد، فيما بات تعداد الويلات وإحصاء الكوارث وحساب المصائب وعد المشاكل، هو الشغل الشاغل للمواطن، من جانبها تعيث الحكومات المتعاقبة بخيرات البلاد بلا عد ولا تعداد، وقد قال مثلنا الدارج؛ (ضرط وزّانها وتاه الحساب).
[email protected]