17 نوفمبر، 2024 7:19 م
Search
Close this search box.

خواطر و… الفورمالين

خواطر و… الفورمالين

مازلت أتذكر جيدا في عام ١٩٧٣ رائحة الفورمالين النفاذة التي تستخدم في حفظ الجثث من التفسخ وهي تملأ انفي عندما دخلت مختبر التشريح لأول مرة وانا طالب في السنة الثانية من كلية طب الاسنان في بغداد. كانت لدي ولدى جميع زملائي الطلاب رهبة خاصة في ذلك اليوم سببها اننا نقف لأول مرة في حياتنا وجها لوجه امام جلالة وسطوة الموت حيث ترقد أمامنا بضعة جثث لأناس كانوا مثلنا في يوم ما ثم قذفتهم الأقدار ليصبحوا جثثا هامدة ينكب عليها ثلة من طلاب الطب لدراسة أعجوبة مكونات جسد الانسان . وكانت حصيلة هذا اللقاء الاول ان نفسي عافت تماماً  تناول اي شكل من أشكال اللحوم لبضعة ايام الى ان تعودت تدريجيا على مختبر التشريح وبلاويه .
كان درس التشريح من اصعب المواد الطبية في ذلك العام الدراسي بالنظر لجفاف تلك المادة من الناحية النظرية كما وان الجزء العملي وهو تشريح الجثث يبعث على القرف لذا كنا نضطر الى حفظ المحاضرات والكتاب المقرر مثل المحفوظات التي كنا نحفظها ونرددها ببغاوياً في المدرسة الابتدائية.

ثم شاءت الحياة بعد ٣٦ عاما ان ارجع الى مقاعد الدراسة الطبية الأولية ولكن هذه المرة في  فانكوفر في كندا ، ومن البديهي ان تتم مراجعة بعض تطبيقات علم التشريح مرة اخرى . لقد قفز العلم قفزة هائلة الى الامام خلال هذه الستة وثلاثين عاما من خلال اختراع ألكومبيوتر والبرامجيات التعليمية ومنها تشريح الجسم البشري حيث يدعك البرنامج تتجول بحرية وبالالوان في أنحاء الفم مثلا فترى عضلات الوجه ومفصل الفك اثناء العمل بطريقة تفصيلية رائعة تجعلك تدرك عظمة الخالق.

عزيزي القاريء.. لا تقلق فأنا لا انوي في هذه الأسطر ان اكتب مقالا طبيا حول التشريح ولكني ذكرت ذلك لأنني شخصيا كلما شاهدت حلقة من برنامج خواطر والذي يبث يوميا من على قناة  MBC  في رمضان أتذكر الفرق في دراستي للتشريح في عام ١٩٧٣ ويومنا هذا . هذا البرنامج الرائع من أعداد وتقديم الشاب السعودي المتنور احمد الشقيري و الذي استمر بتقديمه ١١ عاما متصلة وقد أسدل الستار على اخر حلقاته بنهاية شهر رمضان هذا العام حيث انتهى البرنامج نهائيا. لقد اصبح الشقيري مثلا اعلى وقدوة  للشاب العربي المسلم المعتدل وفاز بالمركز الاول كأقوى شخصية مؤثرة في الوطن العربي من الشباب في الاستفتاء الذي قامت به مجلة شباب 20 الإماراتية . ولد احمد الشقيري في عام ١٩٧٣ في السعودية ثم سافر الى الولايات المتحدة  للدراسة الجامعية في مجال إدارة الاعمال في جامعة كاليفورنيا ثم عاد لبلده لمزاولة أعماله التجارية .  وبعدها فكر في تقديم برامج تلفزيونية موجهة للشباب تقدم جوهر الدين الاسلامي بطريقة غير مألوفة ابدا وغالبا ما يردد في برامجه عبارة ” انا لست عالما ولا فقيها ولا مفتيا ولكن طالب علم”.

ان القران الكريم حمال أوجه لذا ركز احمد الشقيري على كل الجوانب المضيئة في الاسلام والسيرة النبوية وانتقل بكاميرته الى كل ارجاء العالم مستخدما لغة بسيطة سهلة يفهمها الشاب تدعو الى الفضائل كالنظافة والإتقان في اداء العمل وعدم هدر الماء وقدم أمثلة يومية من داخل اليابان عن عظمة هذا الشعب . ثم صور احدى حلقاته من داخل سجن في الدانمارك ولم يتمالك نفسه من البكاء حين قارن بين حياة السجناء المرفهة هناك والحياة البائسة للكثير من الأحرار في بلاد المسلمين . كما وقدم في بعض فقرات البرنامج مواقف حياتية يومية ثم يتسائل عما سيفعله النبي (ص) في هذا الموقف لو كان حيا الان . كل هذا التوظيف الذكي للتكنولوجيا الإعلامية كانت تصاحبه موسيقى رقيقة ومقاطع غنائية قصيرة تتغنى بعظمة الخالق سبحانه وتعالى .

لقد استطاع الشقيري ان يخرج بجوهر الفقه الاسلامي والسيرة النبوية من دائرة الرتابة والملل واللغة الصعبة والوجوه المكشرة التي هي احدى العلامات الفارقة للدعاة والوعاظ التقليدين .. خرج به الى رحاب العالم الفسيح حيث الكلمة الطيبة وحب بني البشر مهما كانت ديانتهم وجنسهم  ولونهم . لم يدعو الى ان يخسف الله الارض باليهود وسائر الأديان الاخرى ولم يرتجي ان يقلبهم الى قردة وخنازير . لم يلبس الشقيري في حلقاته ملابس الدعاة من عباءة وكوفية منسدلة على الرأس ولحية طويلة تذكرنا بشخوص فلم الرسالة بل كان يرتدي الدشداشة الخليجية احيانا والجينز احيانا اخرى وبعض ملابسه من تصميم زوجته مصممة الأزياء رولا دشيشة . لقد تمكن ان يقدم الاسلام ضمن باقة جميلة من الأناقة والشاعرية والحلول العملية لمشكلات الشباب وكل ذلك مسترشدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تنسجم مع ذلك الموقف او الحالة.

وعلى نفس قناة ال MBC هناك برنامج ديني يقدمه احد الوعاظ خلال شهر رمضان بفترة متقاربة مع بث برنامج خواطر،، حيث يظهر هذا الداعية كما ذكرت قبل قليل بهيئة ابطال فلم الرسالة ووجهه يصلح لأي مهنة عدا مخاطبة المشاهدين من خلال التلفزيون … وكذا الحال مع العديد من القنوات التلفزيونية التي تقدم برامج دينية وعظية بالطريقة التقليدية .. لا ادري حقاً لماذا يسعون الى ان ينفروا الشاب المسلم المعتدل من الاسلام بطروحاتهم المتكلسة التي عفا عليها الزمن وبهذه الهيئة المتجهمة التي تصيب المرء بالدرك الأسفل من الإحباط .

كلما شاهدت احمد الشقيري في احدى حلقاته تذكرت برامج ألكومبيوتر الحديثة التي تجعل من علم التشريح مادة شيقة ممتعة تدخل الى العقل والوجدان بيسر وذكاء،، وكلما شاهدت شيخا واعظا او داعية بالطريقة التقليدية تصاعدت الى انفي رائحة الفورمالين التي تذكرني بالجثث المحفوظة في مختبر التشريح ،،،، وشتان مابين الحالتين .

تحية طيبة لك يا احمد الشقيري ، لقد وظفت علمك وذكائك وايمانك بالحداثة والتجديد لخدمة الاسلام طيلة ١١ عاما واستطعت ان تستقطب الشاب المسلم والشابة المسلمة لما فيه خير البشرية بعيدا عن التطرف الديني . من حق بلدك ان يفخر بك لانه لم يسبق لسعودي ان قدم الاسلام بهذه الطريقة الرائعة التي قدمتها .

للتواصل مع الكاتب يرجى الكتابة على البريد الالكتروني
[email protected]

أحدث المقالات