(1)
لم تكن تعلم الصحابية النجدية تماضر بنت عمرو السلمية التي اشتهرت بلقب الخنساء اثر رثائها لأخويها صخر ومعاوية ، الذي تحتفظ به منذ أكثر من اربعة عشر قرنا من الزمان ، ان تنافسها على لقبها وألقها امرأة عراقية .
المنافسة جاءت من تركمانية ، أصيلة ، شجاعة ، صبورة الى حد الاسطورة ، ضربت أروع مثالٍ للشرف والعفة والكرامة والصبر والتضحية، وبكل ما تعتزّ المرأة وتسمو به .
نموذج امرأة مميزة من نساء بلاد الرافدين ، من طراز خاص قدمت كل أعزائها بسلة واحدة قرابين شهادة في سبيل العراق ، ابيها وبعلها ونجلها وثلاثة من أشقائها الى جانب اكثر من عشرين من أبناء عمومتها دفاعا عن الأرض والعرض والعقيدة والوطن خلال تصديهم لهجمة ارهابية لعينة على قريتهم الوادعة ، الهادئة ، المسالمة (براوجلي ).
امرأة قروية ممتلئة بكتلة رصينة من العفة والعزة والكرامة التي تحلق بها الى ما فوق الهامة ، التي لم تنحن ولم تهن امام مجموعة تمثل أعتى عتاة مجرمي العصر ، وعلى الرغم من محنتها ومصابها فلم تستسلم للوحوش الضارية المحيطين بها وبذويها .
ام شجاعة متوسطة التعليم فخورة بانقاذ بناتها الثلاث من ايدي عصابات داعش باعجوبة ونجاحها بتهريبهن بعربة نقل المحاصيل الزراعية بعد أن أخفتهن تحت الحشائش وحزم القش وايصالهن الى منطقة آمنة بمساعدة احدى العوائل الاصيلة من قرية البو …..
دعونا نحلق مع هذه الشخصية النسائية المميزة التي تستحق منا لقب (خنساء العراق) بامتياز ولنستمع الى شهادتها المتلفزة بالصوت والصورة ، التي بذل المخرج باسم جهاد مشكورا المزيد من الجهد والمتابعة للاهتداء اليها في احدى مخيمات النازحين بكربلاء المقدسة .. ونقتطع من حديثها بعض المقاطع بصدد تمجيد القدوة وبهدف ايصال الفكرة حيث تقول :
– لم ابك حينما استشهد والدي وهو يقاتل لمنع الارهابيين من تدنيس بيتنا وقريتنا ولم أذرف دمعة واحدة حينما داست عليه آليات الدواعش ممزقين جسده الطاهر اربا اربا لانه قاومهم بصلابة وايمان وقتل منهم على اسوار بيتنا اربعة من المهاجمين ببندقيته القديمة (البرنو) ولم يعط بايديه اعطاء الذليل على خطى الحسين ع الذي كان يعشق رغم تجاوزعمره الثمانين عاما.
– لم ابك على اشقائي الثلاثة الذين استشهدوا وهم يذودون عن اعراضنا وحقولنا وبيوتنا ومساجدنا وحسينياتنا ومدارس قريتنا رافضين الاستسلام والانهزام امام الاقزام لانهم في حالة دفاع عن النفس ضد كل معتد أثيم .
– لم ابك على زوجي العليل ، الأعزل ، الخارج من عملية جراحية لرفع الكلية وهم يقتادونه امام عيني ليقتلوه بدم بارد ويرمون بجثته في مشروع الماء القريب من القرية ( وهو العامل في مشروع الماء الذي كان يزود القرى المجاورة الحاضنة للارهاب بالماء العذب طوال عشرين سنة ) ليستشهد ساقي العطاشى مغدورا مهموما !
– لم ابك وانا اسير مع موكب الجثامين الطاهرة لاكثر من عشرين شهيدا من أهلي وابناء عمومتي على طول الطريق الممتد بين مستشفى طوز خرماتو وحتى مقبرة الشهداء قرب مرقد الامام احمد ع بالزغاريد والهلاهل وكأني اودعهم الى جنات الخلد مع شهداء الطف .
– لم ابك على احد عشر من اهلي وابناء عمومتي من الذين نزحوا الى كركوك واستشهدوا في احدى حسينياتها بحزام ناسف لان الشيطان لم يشف غليله من قتل الأبرياء بعد .
– ولكني بكيت فقط .. نعم بكيت في لحظة ضعف … وليعذرني ربي على دموعي التي لم اتمالكها ، ولتسامحني سيدتي زينب ع لانني تجاوزت على محنتها ولم ابلغ جزءا يسيرا من صبرها .. نعم اعترف بان دموعي سالت دون ارادتي لحظة اقتادوا ولدي الفتى الجميل ذو الستة عشر عاما ، امامي عيني ، حين كبل الأنجاس يديه الى الخلف امام رجاء زوجي طالبا منهم قتله بدلا من فتى أعزل عاد توا من عمله (كعامل بناء ) ولم يبلغ الحلم بعد ! نعم نظرته البريئة أدمت قلبي وهزت حشاشتي عندما التفت نحوي بنظرة طفولية حائرة وكأنه يسألني ما ذنبي وما الجرم الذي ارتكبته بحق هؤلاء لكي يفعلوا بي هكذا يا امي ؟
لم يمهلوه بل جرجروه كالكلاب المسعورة وتقاذفوه فيما بينهم وهم يتنافسون على البطش به وتمزيق احشائه وكأني امام صور الوحوش الضارية التي تنهش بالغزلان البرية الغضة كما في افلام عالم الحيوان !!
وعندما سمعت اصوات الرصاص تتعالى وترتفع في ذلك الليل الأليل.. كان منظر العرس يترائى امام ناظري ودموعي أخذت تتراجع مع سطوع النور شيئا فشيئا امام صينية شموع القاسم ع
فجفت دموعي وغادرت وكأنه يقول لي :
يمة اذكريني من تمر زفة شباب..
من العرس محروم وحنتي دم المصاب
شمعة شبابي من يطفوها..
حنتي دمي والكفن دار التراب
يمة اذكريني يمة اذكريني من تمر زفة شباب
(2)
وتنتمي خنساء العراق السيدة سهيلة كمال مصطفى رضا كهية عميد الاسرة البراوجلية احدى فروع عشيرة البيات التركمانية التي تسكن القرية التي اتخذت من الاسرة اسما لها( قرية براوجلي التابعة الى ناحية آمرلي في قضاء طوز خرماتو )، وهم أول من استوطن هذه الأرض باعتبارهم من السكان الأصليين الذين يتوزعون في قرية جارداغلي وقره ناز وشاهسيوان وأطراف قصبة طوز خرماتو، الذين عرف عنهم طبيعتهم السلمية والتعايش مع الآخر المختلف معهم عرقيا او طائفيا ن مبتعدين عن كل اشكال العنف والعدوانية اذ لم يسجل في تاريخهم اي نوع من الاعمال الجرمية او جرائم السلب والنهب او قطع الطرق أو اي أعمال منافية للقانون او ارتكاب جرائم جنائية بحق الآخرين ، وانما عاشوا حياة تتسم بالبساطة وبنوع من القناعة الاجتماعية فيما يحصلون عليه من تربية الاغنام وما تدره عليهم الزراعة الديمية الشحيحة ، وتعاملوا مع ابناء المنطقة الخليطة من التركمان والعرب والأكراد بكل معايير التعايش السلمي منذ مئات السنين .
ولم يكن يخطر على بال ابناء هذه القرية الوادعة يوما ، أن تستباح بيوتهم من قبل جيرانهم وابناء عمومتهم المنحدرين من عشيرة واحدة ! الذين تجمعهم بهم صلات وحقوق الجيرة والقرابة والزاد والملح والوشائج الاجتماعية العديدة ،وبالآخص من جهة قرية البو ……. والقرى الاخرى المجاورة .
حدث ما لم يكن بالحسبان .. فالشر أتى من مأمنه ( كما يقول المثل العربي ) بعد أن دخلت اعداد محدودة من الارهابيين من الجنسيات الأجنبية الى القرى المجاورة الحاضنة ، حتى انطلقت الخلايا النائمة من كل قرية بأعداد تعد بالمئات ليغدر الغادرون !
بدأت ملامح الخيانة تتضح ومحاولات خرق القيم السماوية واستهداف الأعراف الاجتماعية والتقاليد العشائرية الأصيلة تتبين شيئا فشيئا وبعض المواقف الاصولية تتراجع عن كل ما يمت الى الاخلاق النبيلة بصلة !
الذهول ينتاب اهل القرية في موقف صادم لآبنائها وهم يواجهون انقلاب بعض ابناء العمومة والجيران على الأواصر والمشتركات وهم يتقدمون الارهابيين الأجانب ، لاجتياح أرض آبائهم وموطن أجدادهم ومالهم وحلالهم وأعراضهم بشهوة القتل والبشاعة والتمثيل والتدمير والسلب والنهب والتهجير !
رياح الشر بدأت تهب على هذه المنطقة الخالية من العنف مع موسم هبوب الرياح العاتية بعد سقوط محافظتي الموصل وصلاح الدين بعد تاريخ ( 10 حزيران 2014 ) مع تسارع الانزلاق
الى مهاوي الوحشية بسرعة فائقة سيما الذئاب النائمة قد بدأت تكشر عن انيابها وتنزع جلود ابن آوى لتتباهى بزيها الافغاني الأسود الكئيب الملثمين باليشماغ الأحمر!
هول الصدمة كان كبيرا ولم يعد للزمن من متسع لامتصاصها اوتفادي الفراغ الاخلاقي الذي أدى الى انخفاض مستوى القيم والانسانية الى أدنى مستوىاتها عن مستوى سطح العقائد والاعراف السماوية والاجتماعية والوشائج المشتركة في تلك اللحظة اللعينة من التاريخ .. ،
الآلآم لا تكمن في وحشية وهمجية الغرباء بقدر غصة غدر اخوة يوسف بعد الخديعة والازدواجية التي مارسها ابناء العم من البو …. الذين تناولوا الغذاء على مائدة وجهاء القرية ، ليشنوا عليهم هجوما بربريا مدعوما بخمسين آلية واحادية بعد ساعتين من تناول الطعام على مائدة براوجلي ! و دون سابق انذار أو وجود أي ثأر بين ابناء القريتين مثلما كان الأوباش يهاجمون العزل الآمنين في افلام الكاوبوي الأمريكي !!!
في منهج ماض على ما يبدو لتمزيق النسيج الاجتماعي العراقي المنوع بحجة إنشاء دولتهم المزعومة المشؤومة على أطلال هدم القيم السماوية ومحو اثار الحضارة الانسانية النبيلة للعراق المنوع الجميل فكان التركمان واقتلاعهم من خريطة المكونات العراقية اول الاهداف البربرية لتحويل العراق بعد تفتيته الى ساحة للتناحر والتطاحن الداخلي المقيت والمميت لكل صور الحياة في تفريغ البلاد بعد تفريغ الشرفاء والاصلاء منه .