امتلك وهجاً يتدحرج بين شبابيك الوله ورعشات الرموش، يتسللُ ليلاً الى باحات الأسرار، يُربك، موازينها ومقاماتها. فهل ذاكرتك تسعلُ وتذرف دمعاً؟ كان لي شاطيءٌ مزدانٌ بالشوق ينهلُ منه أبنُ السبيل، ومَنْ غشيه رفيفُ العشق ورهيفُ النعمة. سلساً تأتي وتمضي بلا ضجّة، لكنّ رحيقَ طلعتك يُضمّخ أحضان الدرب، يُوغل في سناكِ مُخترماً زجاج النافذة. اوانئذ ٍ، تعانقَ حُلمانا وجريا الى ذروة الخلود. كنتُ قبل قدومي الى حارتكم أزدردُ كلماًتي شعراً أبثها الى واعية الملل حين يجتابُ افقي. المسافةُ تحكي حزنها، وكذا شجرُ المدينة. فأين ِالعصافيرُ وزفيرُ أغاريدها؟ المحطةُ ُجرداءُ تجثو على رصيفها كُثبُ الصمت، فخبا هديلُ صفارة القطار، أنا محضُ عاشق هرمٌ يجرحني وخزُ السنين، أراها توغلُ مخالبَها في سلاسة وجودي، في جريان مشيتي، في وجع عظامي، في بقايا ضوء رؤاي. أرى شراسةَ شرّها تُطوّقُ خاصرتي. بيدَ أني أجري وراء الأمن يسبقني الى مثواي. هي الدنيا عاشقةُ قاماتنا.. بنا، بممشانا تزهو وتأتلقُ. نمرّ فيها غرباء غرباً وشرقاً، ولنا فيها وكناتٌ تُحاصرنا وتعصرنا وتتركنا يابسين جسداً وعقلاً. أنا محضُ عابر اتحلّى بموهبة التحدّي، اقطعُ ذاكرة الوقت .
………………….
يمتلكُ رُوعي حصافته، يَرعُفُ وجدانُه بالهمة لا يتهافت ولا يلين. قُدماً يمضي بيَ عقلُ جنوني، وسيُرسي بيَ على حواشي السكينة بلا زمزمة رعدٍ، أو لهيب وجع…
دثّروني
والقموني حجراً. لا بالأوسمة المُزيفة، فلديّ سفرٌ من الستر اتلفعُ به بين ظلال الغابة المنسية. كالقَشّ ِ تحملني الريحُ من اللامكين الى مكمن الطمأنينة، اُلامسُ عُريي، أتجشّمُ الوعرَ الصُلدَ، وابتني عُشّاً يحتضنُ أمني. تُرى أصيّروني طائراً أفترشُ وكناً؟ ولي من حبيبات الوهم مئة ٌ وألفٌ، آلفتُهنَ، حظيتُ بمكر لحاظهنَ..
تقيأني حضنُ المدينة، رماني في معسرة الغياب والغيبوبة. فلساني يتهجّى أسماءَ الحرس المدجّجين بالكُره وعَتام النفوس. فنبذتْني مملكتي وعرشُ صباي وصبابتي. بِتُّ خارج َالتقاويم وأوردة المشاعر. ثمة َ في ضمير وحدتي وجدتُني كاتماً سرّي وسِتْري.فضيّفتني أعشاشُ اليمامات، والنُسيماتُ تجيءُ من الميمنة والميسرة، أنا ميسورُ الحال، يحسدُني مياسيرُ مدينتي. ولي قلبُ طائشٌ ٍ يجتابُ أودية الزمن، يحاورُاحدى خديناتي ممّن رسمنَ وجهي على حواشي المحبّة. فمنْ مثلي حَظِيَ بالمجد؟
………………………………….
طُوبى للفرح يستريحُ عندي.
حسبي أنّ ظلّي ظلَّ يتمشّى في شرايين المدينة. فكلُّ أحجار جدرانها تعرفني وأعرفها..
الوخزُ بالنظر
معلناً رفضي أنْ أكونَ جرّة ماء فارغة، يركلني كلُّ عابر الى مأربه. ويُسمعني صراخَ المآذن يتدحرجُ بين سكينة الفجر.
أفتحُ زعيق حُنجرتي على المعابر وأقنية الملل، أستاف عبق زفيرالزنبقة يصفعُ هلام ضوء الصباح. عائداً الى حضن الأمن والأمنية، اتوسّدُ خاصرة الأمل المُؤتلقة عبر مديات الرؤية. فأُشهرُ اعجابي في وجه المسرّة تتكدّسُ في المدى الزنبقي. ثمّة أرى طفولتي ويفاعتي مثقلتين بالحمّى واليرقان. فمُبادراتُ عنادي قاصرةٌ وقصيرة لا تطولُ ما يتحدّاني ويقطعُ شعيرات همتي. كنتُ أعلنتُ عقمَ التحدّي، فما ينتظرني في الطريق هولٌ أعظم من قدراتي. فنكصَ عزمي وحزمي وتراجعتُ. كلُّ المنافذ مُغلقة ٌ فيُواجهني جدارُ الخيبة. عزيزاً نقيّاً صابراً حكيماً أتوقّفُ. فليس لديّ مكرُ المُراوغة ووميضُ يقظة ٍ يُلبسُني التمرّدَ والرفض. سأترك ماء الساقية يحملني الى أفضية مجهولة تقتاتُ نضارتي. ولا أنسى عشرائي خلّفتهم خلفي ليستغرقوا في التهام دسَم اللذات والعسل. وهم يرونني فوق هاماتهم نجمةً أو غيمة أو زهرةً نبتتْ على حواشي النظر. أنا لُغزُ الأزل لم أزلْ اطوفُ بين مناكبهم وأجسُّ لون خطيئاتهم. باق ٍأنا، وظلالهم الى زوال ٍ عاجل.
……….
بذرةُ خير ٍ أنا. فأينما صرتُ تورقُ ذاتي ويتعملقُ جذعي، لا تستهنْ بحبة صغيرة، وكلُّ شاخص له بدءٌ قبلَ أن يتدثّر بهيئته وهيبته.
حُزنُ الوثيقة
أحزمُ وجعي، أدسُه في كيس القدر وامضي. الى أيّة جبهة تسوقُ مركبتك يا وجه َ النُعاس. نازلٌ مرتبة ً، صاعدٌ فوق بلاغة الصمت . تسلك ممرّ الخيبة والخسارة. تحتضنُ جسارتك حيناً، لا فرقَ في موازين المعيشة. أنتَ واحدٌ تنساق في أقبية الرهافة والزلات المفاجئة. بيدك معولُ الهدم، لكنك تقطعُ أعناق القَشّ ِ. يسخرُ من لعبتك هوامُ البسيطة ومن لُعابك يسيلُ على صدرك. قبلاً كنتَ أمنية َالعيون تتراقصُ حول قامتك أعينُ الغيد. الأن، تهاوت هيبتُك واضمحل شأوُك… في أقاصي مُخيلتك تنزفُ جراح ُذاكرتك أنساغَها. فيما تصدُّ باب عُزلتك قابعاً في كنف الظلام تقرأ أناشيدك على الفراغ المحتضر. فقدتْ قصيدتُك سخونتها، وابترد المعنى. وعافتك حُنجرة ُالمغنى. الأن، تجري بك المصادفة ُ تنساقُ لسياط ِمَوْجِها، تُرى : لمَ افتقدتْ شفتاك معجزة الغناء؟؛ بعيداً عن السطور والورقة العذراء ترمي أنّات ِ صراخك فوق كاهل العِتاب يزدان به المدى الأرحب. فتهذي بأسرارك القدسيّة شفتاك المُترهلتان. يا لأيامك المُكدسات طيّ دهاليز اللامبالاة وأغطية العتام. أنت لا تتعلم من بلاغة التجربة. تُضيّعُ خُطا ممشاك الأبدية.
……..
سأمرّ على ليالي أحلامك، أجسُّ وهلَ غضارتها يخترمُ دغل ذاكرة بغدادك يومَ كانت تتسربلُ بزهوِ شبابها ونهارِ حاراتها المُشعّة بعسجد الأمن والأماني ..
ومرّ ليلُنا
من دهشٍ الى سواه تسقطُ قطراتُ الأدعية وعرة ًمتجعّدة ً، تفقدُ رونقها المتمايز. ذا أنا في حنية مجهولة معزولة عن نظرات الفضول. عثرتُ مصادفة على كيس جلدي أشبه بمحفظة ، ترددتُ في فتحها، تنطوي على بضع قطع نقدية صغيرة من فئة الفلس ، وبضع وريقات مختلفة: دولارات، يوروات ، دنانير عراقية ملكية، ورسالة مطوية لم أجرؤ على قراءتها. لم يُتحْ لي رؤية الصور وهوية صاحبها، اضطررتُ الى دسّها في جيبي والهرولة تجاه حافلة الركاب التي توصلني الى منطقة سكني. وقبل أن أصل اليها تحرّكت ومضت بعيداً. توقفتُ عند محل غسل وكوي الملابس. رمقني صاحبُ المحل بلامبالاة عشوائية. قلتُ له : لديّ بدلتان أرومُ تنظيفهما . ردّ من دون أن يرفع نظره نحوي : هاتهما . ولا أظنّ أني عدتُ اليه ثانية. ثمّ فطنتُ الى أني كنتُ حافياً ، لكن أين حذاءيّ ؟ كان جلُّ مُناي أن أعبر الجسر الى الضفّة الأخرى وألجَ المكتبات ، وأقتني كتباً . أغلبُ الظن أني لم أعبر الجسر .لكني عدتُ الى ما قبل الزمن ذاك، كنتُ فتى صغيراً اسوق قطيعَ أغنام الى الفضاء البعيد عن قريتنا. النهارُ طويلٌ مُملٌ ، وكذا حياة القرية الفقيرة التي تتشابهُ أيامُها ، كأني أعيدُ وأكرّرُ ما عشُتُه قبلاً. فمَنْ يُخرجني من ذي الدائرة؟ أخيراً عبرتُ الجسر وأحتوتني أحشاءُ
المدينة، كان الصّخبُ يملأُ روعي: ضجيج السيارات، صُراخ الباعة، صوتُ المذياع العالي تضخُّ أحاديثَ وأغنيات سياسية مبتذلة. تمنيّتُ لو أعود الى مثواي الأول. أنا ضائعٌ صانعُ عاهاتي ، وورائي زوابعُ تُسوّقُني الى مآربها. تُرى أين بيتُنا ، وما احوجَني الى طعامٍ يسدُّ رمقي.