18 ديسمبر، 2024 9:48 م

خمسة مواقف لا أدري من أيها أعجب عن طيب الخيرين وتراحمهم !

خمسة مواقف لا أدري من أيها أعجب عن طيب الخيرين وتراحمهم !

حدثت أمامي خمسة مواقف لا أدري من أيها أعجب، الأول حملت سجادتي وانطلقت هائما على وجهي الى لاوجهة والى لامكان لعل جامعا مباركا يرحب بصلاة الجمعة وله وجهة نظر في تعليق الصلوات للمرة الثانية، اذ هل يعقل السماح للملاعب بإقامة المباريات بينما تمنع المساجد من اقامة الصلوات مع ان الاولى – الملاعب -تفتح ابوابها لإقامة مبارياتها لساعات متواصلة، حيث تمارين الاحماء ورطوبة المنازع والاحتكاك والتعرق والبصاق على ارضية الملعب والعطاس والسعال والرذاذ والتلامس وعدم ارتداء الكمامات المعيقة للعب علاوة على العناق الحار مع كل هدف ديدنها، فيما مجموع الصلوات الخمس كلها جماعة في المسجد لاتتعدى بمجملها الساعتين ونصف الساعة لليوم كله من صلاة الفجر وحتى انتهاء العشاء لأن الجامع يفتح قبل 10 دقائق فقط من الاذان ويغلق بعد 10 دقائق من انتهاء الصلاة + 10 دقائق هي زمن الاقامة وصلاة الجماعة = 30 دقيقة لكل فرض فقط لاغير بينها فواصل زمنية طويلة تصل الى ست ساعات ونصف بين الظهر والفجر،سرت في الازقة والحارات الشعبية أملا بالعثور على أحدها واذا بشخص يتحدث بهاتفه المحمول “من عادة العراقيين رفع اصواتهم اكثر من اللازم أثناء المكالمات الهاتفية حتى انك تسمع المكالمة كلها من طق طق الى سلام عليكم ، اسوة بأشقائنا المصريين حتى اني واذا ما سافرت الى أي بلد وسمعت اثناء تجوالي شخصا ما يتحدث بصوت عال ولا مبرر له عبر الهاتف – النشال – قلت هذا شخص اما مصري واما عراقي لامحالة !”،المهم سمعته وهو يقول لصاحبه ” تعال بسرعة الى المسجد الفلاني سيقيم صلاة الجمعة، البس كمامتك وتأبط سجادتك وتوضأ في بيتك وأنا بإنتظارك ” وما إن سمعته حتى طرت فرحا وتوجهت من فوري الى المسجد المذكور أحث الخطي قدما وبالفعل فقد اقيمت الجمعة – كانت من اروع الجمعات – وكان المصلون في غاية النظام والتنظيم والالتزام بقواعد وإجراءات السلامة ” كمامات + سجادات منزلية + الابتعاد عن بعضهم اثناء الجلوس والصلاة بمسافات + معقمات + الوضوء في المنازل وعدم استعمال المرافق والحمامات + تجنب العناق والتقبيل والمصافحات+ تعقيم وتعفير المسجد قبل وبعد اداء الصلاة + الخروج من الجامع فور الانتهاء من الاذكار والتسبيحات ..لاتجمعات على باب الجامع ولا في باحاته ولا احاديث في الدنيا ولا ثرثرات ” وكان الخطيب مفوها ومتمكنا من ادواته وعلى المستويات كافة وقد استعرض اسباب عدم تطبيق ادارة مسجده للغلق وكانت ادلته وحججه منطقية ،بينة ،جلية ،واضحة ،مقنعة للغاية ، مطالبا من يهمه الامر بالتراجع عن قرار اغلاق المساجد الثاني لأن المصلين هم اكثر اهل العراق قاطبة انضباطا والتزاما منذ بدء الازمة الوبائية والى يومنا بما سأستعرضه بالتفصيل لاحقا في مقال قريب بإذنه تعالى واضمنه حجج الخطيب الرائعة والتي لايملك احدهم الرد عليها مطلقا لقوتها ووضوحها ودقتها بما لالبس فيه البتة .
– الموقف الثاني : بعد ان تعبت من السير بسبب حظر التجوال المفاجئ الذي لم يخطر على بال لمحت بائع شاي كادح قريب في – جاي خانة – شعبية صغيرة جدا وقد علق على احد جدرانها الداخلية صورة صغيرة موضوعة داخل برواز لشيخ عراقي جليل معروف استشهد برصاص الاميركان عقب الاحتلال 2003 بفترة قصيرة جدا ظلما وعدوانا ، ترحمت عليه ، ثم ما لبثت ان انشغلت بشرب الشاي – بالقدح السفري – ومددت رجلي قليلا لأريحها من اعباء المشي الطويل فوقع بصري ثانية على صورة الشيخ فأمسكت وتأدبت وانتبهت وكأنني تلميذ صغير في مدرسة الشيخ الكبيرة رحمه الله واسكنه فسيح جناته ..وكأنه حي يرزق بين ظهرانينا ويجلس امامي لحظتها ، فقلت في نفسي “رحمك الله تعالى ..ماهذه الهيبة ، ماهذا الوقار ، ماهذه الكاريزما ، التي تشع منك نورا حيا وميتا ، حتى ان حيا من الاحياء ليستحي مد قدمه وصورتك معلقة الى جواره وقد غادرت دنيانا الى رب جليل قبل 17 عاما !” .
الموقف الثالث : نشرت احدى الاخوات الفاضلات بوستا مشفوعا بسكرين شوت من صفحة اخرى لفتاة صديقة لها توفيت بالامس كانت قد نشرت قبل مدة قصيرة بوستا يعبر عن اعجابها بنزول الثلج في مدينتها قائلة ” ولبسنا الابيض ” وطلبت الاخت الفاضلة – وهي تقرأ ما كتبته الان – الترحم على هذه الفتاة التي كانت حية قبل ايام واليوم تحت التراب …الحقيقة لقد تأثرت بهذا الخبر وبادرت بكتابة تعليق تعزية ما ان وصلت فيه الى لباس الثلج الابيض المذكور حتى سمعت شيئا يشي بحسن خاتمتها ، ونص التعليق الاتي” لاحول ولا قوة الا بالله ..لقد لبست الابيض فعلا ..رحمها الله واسكنها فسيح جناته …وانا اكتب هذه الكلمات ولحظة انتهائي من – لبست الابيض – والله على ما اقول شهيد واذا بقارئ القرآن من المسجد الكبير القريب ومن السماعات الخارجية يتلو الاية الكريمة ( ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ) وهذه الاية الكريمة من سورة الكهف ويستحب ان تتلى يوم الجمعة والاية كاملة : ” أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ” واسأل الله تعالى ان تكون اختنا الفاضلة المتوفاة منهم كما اسأل الباري عز وجل ان يباعد بينها وبين خطاياها كما باعد بين المشرق والمغرب وان يغسلها من ذنوبها بالماء والثلج والبرد ، وان ينقها من خطاياها كما ينقى الثوب الابيض من الدنس …وكل امواتنا وامواتكم واموات المسلمين ..آمين .
– الموقف الرابع : صلينا صلاة الغائب قبيل الحظر ومنع التجوال على رجل لا أعرفه فسمعت بشأنه عجبا حيث صليت العشاء في احد المساجد الصغيرة التي لم اعتد الصلاة فيها الا لماما بعد أن وافق الاذان للصلاة اثناء مروري بالقرب منه وبعد ان انتهينا من الصلاة قال امام المسجد “اخوتي الاحبة لنصلي صلاة الغائب على احد رواد المسجد ممن يواظب على صلاة الفجر يوميا معنا وقد توفاه الله تعالى اليوم “، ادينا الصلاة ودعونا له بالرحمة والمغفرة ، بعدها قامت ادارة المسجد مشكورة بتوزيع علب طعام جاهز ثوابا على روح الفقيد رحمه الله تعالى واسكنه فسيح جناته ..
حتى تلكم اللحظة كل ظني هو ان هذا المصلي الذي احزن فقدانه امام الجامع وبقية المصلين الى درجة توزيع الطعام على روحه ثوابا اضافة الى الصلاة عليه غيابيا هو رجل كبير في السن ومن رواد المسجد القدامى المعروفين منذ سنين طويلة على مستوى الجامع والمنطقة المحيطة به الا ان المفاجأة غير المتوقعة نهائيا والتي سمعتها صباحا جاءت على لسان احد مصلي هذا المسجد المبارك ، حين قال لي ” بأن المتوفى شاب صغير لم يتعد الـ 20 عاما من العمر وقد توفي بعد اجراء عملية جراحية مستعجلة انتهت بمضاعفات لم تمهله سوى لساعات بعدها، وانه من رواد المسجد الجدد لكونه قد سكن المنطقة حديثا بعيد زواجه قريبا …!
قلت بالعامية : يعني شكد حديثا “سنة ، سنتان ..اكثر ؟! ” .
قال : انه يصلي معنا منذ اسبوعين فقط لاغير ،الا ان مواظبته على صلاة الفجر يوميا ، وسلامه على الصغير والكبير قبل وبعد الصلاة بكل ود وتواضع والابتسامة تعلو محياه ، وتلاوته للقرآن بهدوء وسكينة بين الاذان والاقامة في احدى زوايا المسجد ..وانزوائه للصلاة والتسبيح بكل خشوع عقب الصلاة المكتوية من دون التلفت والالتفات وعدم التدخل في شؤون الاخرين وصون لسانه عن فضول الكلام كليا ، جعلنا نحبه ونحترمه ونتفقده ..جميعا ..علما انه لايصلي معنا جماعة سوى الفجر والعشاء !
الحقيقة ان وراء هذا الشاب سر مع الله تعالى لايعلمه الا هو ،رحمه الله واسكنه فسيح جناته، وانظر ماذا يصنع افشاء السلام والمواظبة على الذكر وتلاوة القرآن وماذا تفعل صلاة الفجر حاضرا في المسجد!
الموقف الخامس : لمحته وهو يحمل كيسا كبيرا من الخبز والصمون على دراجته النارية …
– الى اين العزم بكل هذا الخبز والصمون في هذا الوقت ؟
* قال : الى اعلى الجسر ومن ثم الى النهر !
– ومن اين اتيت به ؟
*قال : اجمعه يوميا بعد صلاة العشاء من امام المطاعم ، من امام المنازل ،مما يقع عليه بصري أثناء تجوالي في الشوارع والطرقات ،فضلا عن كل ما يفيض عن حاجتنا في بيتنا واذهب به بدلا من رميه في مكبات النفايات وسلال المهملات بعيد صلاة الفجر الى اعلى الجسر ومن اقوم برميه في النهر لتأكل منه الاسماك فأكون بذلك قد رفعت النعمة من الشوارع والطرقات اولا ..واطعمت بها خلقا من عباد الرحمن ثانيا !
ايه يامدرسة الفجر الرحمانية كم خرجت من اصحاب الهمم العالية والعقول النيرة والضمائر الحية والقلوب الصافية ،والمشاعر المرهفة الطيبة .اودعناكم اغاتي.