23 ديسمبر، 2024 4:58 ص

خمر وخوف وهزات ارضيه !!

خمر وخوف وهزات ارضيه !!

رغم تجاوز الانسان المعاصر لحلقات المعرفة الأسطورية و الفلسفية في تفسير الظواهر الطبيعية وبلوغه مرحلة التحليل العلمي الرصين، وتأسيسه لحضارة تقوم على البحث التجريبي، لازالت بعض المجتمعات الإنسانية تسّوِق للخرافة كميثولوجيا حيه تستعيد فيها بعض الطبقات الاجتماعية حق تفسير مظاهر السماء وقدسية الايحاء , وتدفع المجتمع الى عشوائية التحليل والحكم.
ان فك الارتباط بين الخرافة والظواهر الطبيعية من اشد وأصعب مهمات العقل البشري في الوعي المعاصر، أذْ لازالت قصص الكوارث الطبيعية والدمار تحتل مساحة شاسعة في الكتب المقدسة باعتبارها عقاب ألهى للجماعات البشرية، سواء في الكتب السماوية او الديانات الأرضية.
أن نظرية العقاب السماوي لا تقبل الأسئلة والتعليل العلمي، وتفسر وقوع الزلازل والكوارث الطبيعية والموت الغامض للشعوب بأنها جزاء لها بما اقترفته من افعال لا تقبلها السماء، لتضع الانسان في مأزق اخلاقي عنيف، في تخلي اصحاب النظرية عن المروءة والشهامة الإنسانية في التعاطف مع ضحايا هذه الكوارث.
أرسل ابو مصعب الزرقاوي في عام 2005 رسالة تهنئه الى اسامه بن لادن بعد وقوع اعصار كاترينا في الولايات المتحدة واعتبره بداية نهاية امريكا (على يد جندي من جنود الله اسمه كاترينا) , وكتب احد وزراء الثقافة العربية مقالا” افتتاحيا” يعتبر فيه ان اعصار كاترينا عقابا” ربانيا لتدخلها في العراق وبأنها ستندحر قريبا بالأعاصير وطيور الابابيل لظلمها العرب, وعندما ضرب اعصار (جونو) شواطئ عُمان في 2007 وفيما كانت المنظمات الدولية تتقاطر لمساعدة المنكوبين, كانت مراكز الافتاء الديني في عدد من الدول العربية تتشمت بهذا البلد وتعتبره عقابا الهيا لافتتاح احد مراكز الفنون الجميلة!! او ربما بسبب العقيدة الدينية!!. وتكرر نفس المشهد في اندونيسيا في 2004 عندما ذهب الاف الضحايا، وكانت كالعادة فلسفة العقاب الالهي حاضره فجعلت من وجود المواقع السياحية سببا للغضب الالهي.
العقاب الالهي في الحضارات العراقية القديمة هو القصاص الذي تأمر به الاله ضد افراد او جماعات تخالف الاوامر الإلهية، حيث أسقط العراقي هيكل سلطة الدولة وطبيعة الثواب والعقاب بين الافراد والملك على طبيعة وانفعالات الاله ضد المذنبين سواء جماعات او افراد, لذلك تَوّلد توجس لدى الانسان العراقي بأن أي محنه او نكبه او مرض مباغت يتعرض له لابد ان يكون غضب الاله هو السبب, فظهرت في وقتها القرابين المادية والبشرية لتجنب غضبها, ونقرأ كثيرا” في الالواح المكتوبة كأسطورة ( نركال ) او ( ايرشكيجال) عن عقاب ( انانا ) عشتار وشعبها, وكذلك في اسطورة كالكامش عندما غسل الطوفان الارض واباد شعوبها لكثرة ذنوبهم .

يقول العالم الاسلامي زغلول النجار ان أي كارثه طبيعية او زلزال او وباء يحمل رسالة جوهريه مفادها ان الانسان ابتعد عن الله واستحق العقوبة بهذه القسوة، يدعمه في ذلك جيش جرار من انصاف المثقفين ودعاة المصير الاسود للبشرية، ويستندون الى نصوص بالغة الوضوح (إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وكذلك (أفأمن الذين مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) وغيرها من النصوص التي تجعل الانسان حائرا” في جدليه لانهاية لها. حيث ان الكوارث التي حدثت في منطقتنا مثل اعصار (جونو) وهزات إيران المدمرة، وفيضانات وأعاصير بنغلادش التي لم يعرف يوما” أنها بالغت في الفجور لشدة فقرها، هذه الكوارث لم تضرب البوارج وحاملات الطائرات والغواصات الأمريكية، والجزر السياحية في البحر التي تضج بكل المحرمات. اما الاقوام التي فتكت بالبشر من دون ان يقوى أحد على مواجهتها لم ينزل الله بها أي عقوبة دنيوية كما هو الحال حديثا” في ظلم اليهود للفلسطينيين، اما قديما، فمن يقرأ ما فعل هولاكو في بغداد لا يمكن الا أن يتخيله يوما” من ايام القيامة، ورغم ذلك لم ينزل بحقهم حتى زخة مطر تعطل حفلات الدم التي استمرت لأربعين يوما”.

عندما توفي ابراهيم ابن النبي محمد (ص) حدث في نفس اليوم كسوف للشمس فتهامس الناس ان ذلك حدث حزنا” على ابن النبي، فتصدى لهم النبي العظيم بخطبة فارقه ” إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته “فحسم الامر وقبر الخرفه بشكل حاسم.

ان جهل الانسان بالقوانين الكونية التي تحرك الظواهر الطبيعية او عدم رسوخ هذه القوانين في وعيه، تعزز عجزه عن مواجهة القوة القاهرة للطبيعة، فيلجأ الى الميتافيزيقيا كاستراتيجية تفاوض مع المسبب الميثولوجي، فيجسدها بالصلاة والاستغاثة بالسماء من دون ان يحصن نفسه بفهم اسباب حركة الظواهر لتفادي وقوعها او تقليل خسائرها.

يقول ابن رشد (ينبغي ان تعلم ان من جحد كون الاسباب مؤثره بأذن الله في مسبباتها انه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم)، ان نكوص الانسان عن عقله الواعي الى عمق ديانات التاريخ التي كانت تفسر الحياة بمقاييس غامضه، هو جريمة كبرى بحق الانجاز الحيوي المظفر لمقاييس المنطق ونضج الحضارة الإنسانية، لان الانجرار الى المجهول صفة العقل العصابي الذي لا يثق بمقاييس نضجه المعاصرة.