15 نوفمبر، 2024 12:51 م
Search
Close this search box.

خليفةُ اللهِ : من تسنُّمِ الذاتِ إلى ضياع الهوية

خليفةُ اللهِ : من تسنُّمِ الذاتِ إلى ضياع الهوية

( إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفة ) مُذ أن نطقتْ السماءُ بهذهِ الكلماتِ ، وترددَ صدى حروفِها بينَ أصداءِ صنوفِ المسبحينَ ، من ( عباد الله المُكْرَمين ) و انتهاءاً بـ( طاووس الملائكة ) ، أُبرمتْ وثيقةُ العهدالإلهي بين المُستخلِفِ والخليفة على الاستقامة والانصياع التام في طول الخط التكليفي ، بعيدًا عن كل ما يخلُّ وينقضُ جوهر الخلافة .

     وثيقةٌ مُنِح في ضوئها مَنْ كان عائمًا بين جدران الصمت وحُلَك الظلام امتيازاتٍ فاقتْ تصورَ جميعِ الحاضرين ، وألهبتْ نيرانَ الحسد ، وأفرزت عقدةَ           ( الأنا ) المختبئة خلف طلاسم عبادة آلاف السنين ؛ فمن سجودِ التعظيم لشخصهِ الكريم ، وصولاً إلى الانعتاق من قبو الوحدة عبر نافذة الاقتران           بـ(حواء ) ، واستقرارًا بقبولِ قرابين التوبةِ بعد دموعِ الندم لفراق مقام الفردوس السامي ، وعودةً لنقطة البداية والشروع بتنفيذ ماتم الاتفاقُ عليه بين طرفي الاستخلاف .

    كلُّ هذه الإفرزات كان لها دورُ التنضيج والإنماء والصقل لهوية الذات المُستَخلَفة ، والقبولُ بها عنوانًا ممثلاً لسلطة السماء ، فليس بعيدًا عن الصواب أن يقع الخيار على هذه  الذات المُؤهلة للاستخلاف بكلِّ معايير الانضباط والثبات في طريق الابتلاء ، بعد أن اتضحت معالمُ شخصيتها الإنسانية وتسنمت ذروةَ العلياء والمجد بشرفِ الانتماء والتمثيل للمُشروع الإلهي ، فهي تعي جيدًا أن تكون خليفةً بأيِّ معنى ، بمعنى أن تكون يدَ الله التي تبطشُ بأعدائه ، وعينَ الله التي تحرسُ مالَه وترعى عيالَه ، وقبل هذا وذاك أن تكون حاملةً لرسالة الحق في كلِّ أبعادها ، وهي تعي أيضًا حجم التحدي وخطورة الموقف إزاء مَن انتُزِعت منه الخلافة وأنه سيكون لها حجرُ عثرةٍ  في صراط الاستقامة .

      على الجانب الآخر من رحلة الوفاء بالعهد استرسلتْ رغبات هذه  الذات بين متاهات ( حب الأنا ) و ( حب الدنيا ) ، ولبست الثوبَ بالمقلوب ، حتى تراكمت عليها أغشيةُ المرية والعُجُب ، وانصاعت في لحظةٍ من غياب العقل وراء النزوات صاغيةً لصوت الشهوة والغريزة ، ناقضةً لعهد الاستخلاف ضالةً طريقه ، وكأني بها تقول مستفهمة : ( مِن أين؟ و إلى أين ؟ ) مَن أنا – لماذا أنا هنا – وما هي نهاية المطاف ؟

     هذا هو حال واقع أغلب شبابنا اليوم ؛ إذ يعيش غربةَ الذات وضياعَ الهوية ، وحال التردد لايكاد ينفكُّ عنه ، ترددٌ بين الوجود والعدم ، بين القيَم والابتذال بين الحقيقة والخرافة  ، بين الوفاء بحمل الأمانة ونقضها ، بين الدين واللادين تتحرك وفق شهواتها بعيدةً كلَّ البعد عن جوهر حقيقتها ، والتقليد فتح باعيه لاستقبالها ، بعد أن رمَتْ قيمها تحت أقدامه ، ومَضتْ لا على سبيل الرشاد ، تقليدٌ في الشكل والمضمون في ديباجة الكلام وتنميقه في قصاتِ الشعر ،في كلِّ شيء ، ينبغي أن لا يقِرَّ لها قرار ولا تعرف الاستقرار، أن تمسي بيضاء وتصبح سوداء فالتلون ينبغي أن يكون طابعها الجديد .

     يحاول أعداء الإنسانية حثيثًا أن يفصلوا بين الإنسان وقيمه بين وجوده الحاضر وتراثه النيِّر ؛ ليقطعوا عليه الطريق أن يكون إنسانا ، وأن يرفعوا صوت الغوغاء والضوضاء من حوله لكي يضلَ الطريق ويكون فارغاً من كل انتماء إلا صوت الحيوانية فيكون سهل الانقياد وتبقى لهم الغلبة ،   ليس عليك أن تبصر الطريق ، لأننا سنكون مرآتك ، نَمْ قرير العين وما عليك إلا الإطاعة .

   استيقظ من سباتك يا من خُلقِتْ من أجلك الأكوانُ ومعها سبع سموات ، إنك لم تكُن لتُقاد كما تُقاد الدَّوابُ والبهائم  وإنما لتُقادَ بين يديك ، أنفض غبار الشهوة عن فطرتك ، وعُد إلى عهدك الأول واسترجع هويتك من المجهول ، والتحق بركب الإنسانية قبل فوات الأوان ، فإنك بين قوسين أو خيارين لا ثالث لهما كمال العقل واستحقاق الخلافة أو سبيل الحيوانية كما قال تعالى : ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ  – ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ  )) [ التين: 4 – 5 ] إنك بين قوسي الصعود والنزول بين خلافة الله أو ضياع الهوية  ولك الخيار .

أحدث المقالات

أحدث المقالات