فرضيتان لاثالث لهما فيما يتعلق بخلفيات وظروف الضربة الجوية الاميركية الاخيرة لقوات الحشد الشعبي المتمركزة على الحدود العراقية-السورية.
واشنطن ادعت ان الضربة تمت وفق تنسيق مسبق مع الجهات الرسمية العراقية، ووزارة الدفاع العراقية من جانبها نفت تلك الادعاءات جملة وتفصيلا، مؤكدة ان التنسيق مع قوات ما يسمى بالتحالف الدولي تقتصر على القضايا المتعلقة بالمهام التدريبية وليس القتالية، ونفس الشيء صدر عن وزارة الداخلية، التي قالت في بيان لها بالنص، “ان آليات التعاون مع التحالف الدولي تنحصر في تطوير قدرات ومهارات القوات الأمنية في مجال العمل الشرطوي، وبما يعزز قابليات قوات الوزارة في تعزيز الأمن الداخلي ومحاربة الجريمة وتحقيق السلم المجتمعي”.
في حال صدقت واشنطن بأدعاءاتها هذه، فحينذاك يتحتم على القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ان يقدم توضيحات مقنعة لما حصل، مثلما دعا عدد من الشخصيات والزعامات السياسية وقيادات الحشد الشعبي، لان ذلك لو كان صحيحا، فأنه ينطوي على امور خطيرة للغاية ويستدعي اتخاذ خطوات معينة. اما في حال كانت واشنطن تكذب وتلفق، من اجل خلط الاوراق واثارة الفتنة بين المؤسسات والاجهزة الامنية العراقية، فهذا هو الاخر يتطلب اتخاذ خطوات من نوع اخر، وتبني موقفا حاسما وحازما، وهنا المسؤولية الرئيسية تقع على عاتق القائد العام للقوات المسلحة.
في ذات الوقت الذي تصاعدت فيه الاصوات المطالبة بالكشف عن تفاصيل ما دار في الاتصال الهاتفي الاخير بين رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي والرئيس الاميركي الجديد جو بايدن، لان تزامن الاتصال مع القصف الاميركي يثير اكثر من علامة استفهام، لابد من تقديم اجابات مقنعة عليها من قبل اصحاب الشأن والقرار.
هذا جانب من صورة الحدث، وهناك جانب اخر، تمثل في ان الضربة الجوية وقعت في داخل الاراضي العراقية، وليس كما ادعى البعض بأنها وقعت داخل الاراضي السورية، وانها استهدفت مقر اللواء السادس والاربعين للحشد الشعبي، وتسببت بسقوط شهداء وجرحى، ناهيك عن الاضرار المادية.. وهذا يعني فيما يعنيه انتهاكا سافرا اخر للسيادة الوطنية، كما حصل مرات عديدة كان اخرها مطلع العام الماضي، قبيل جريمة اغتيال كل من نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الشهيد ابو مهدي المهندس، وضيف العراق رئيس فيلق القدس الايراني الشهيد قاسم سليماني.
هيئة الحشد الشعبي تريثت قليلا في تبيان موقفها من الاعتداء الذي تعرضت له احدى قطعاتها حتى تتبين لها الحقائق والمعطيات بشكل كامل، ولعل بيانها الصادر بعد حوالي اثنين وسبعين ساعة من حصول القصف الجوي الاميركي، اشر الى ذلك، حينما جاء فيه، “انتظرت هيئة الحشد الشعبي مدة من الزمن حتى اكتمال الرواية الكاملة حول هذا الاعتداء والتحقق من ان مقاتلينا لم يكن متواجدين في عمق الاراضي السورية عكس ما قالته رواية القوات الامريكية المعتدية، وان ابطالنا كانوا ضمن الشريط الحدودي بين البلدين لحماية الارض العراقية من الإرهاب. وبعد هذا التأكد نعلن رسميا ان قواتنا كانت ضمن خط الدفاع العراقي، وان هذا الاعتداء ينبئ بتطورات مستقبلية خطيرة لابد من الوقوف دون حصولها، وعلى الجهات المختصة والمعنية القيام بواجبها اتجاه ابناء الحشد الذين ضحوا وما يزالوا في سبيل امن العراق”.
ورغم ان واشنطن اصرت على الادعاء بأن ضرباتها كانت في داخل الاراضي السورية وليس العراقية، الا انها تحدثت بكل وضوح وصراحة بأن تلك الضربات كانت عبارة عن رسائل موجهة الى طهران، ولعل تصريح المتحدثة جين ساكي يستبطن هذا المعنى، حينما قالت، “إنّ الرئيس جو بايدن يبعث رسالة لا لبس فيها بأنه سيتحرك لحماية الأميركيين، وعندما يتم توجيه التهديدات يكون له الحق في اتخاذ إجراء في الوقت والطريقة اللذين يختارهما”.
وبعيدا عن التصريحات الرسمية، فأن اصحاب رأي في مراكز دراسات وبحوث اميركية قريبة من مراكز القرار، تحدثوا بوضوح اكبر، فهذه دارين خليفة الباحثة في مجموعة الأزمات الدولية، تقول ” إن واشنطن تبدو كمن يرسل إشارة أنها لن تتساهل مع أنشطة إيران الإقليمية لصالح المحادثات النووية”، في حين يذهب الباحث في معهد دراسات الحرب نيكولاس هيراس، الى “ان ادارة بايدن، توجه رسائل إلى خصوم سياسته تجاه إيران في الداخل، مفادها بأن الولايات المتحدة قادرة أن تكون قاسية تجاه إيران، وأخرى إلى إسرائيل بأن واشنطن قادرة أيضاً على ضرب المجموعات التابعة لإيران”.
بعبارة اخرى يمكن القول ان الاعتداء الاميركي الاخير يعد رسالة واضحة مفادها ان واشنطن لم تتغير ولن تتغير رغم تغير الرئيس، والرد عليها يكون بأنهاء التواجد الاجنبي واستعادة السيادة الوطنية الكاملة جوا وبرا وبحرا، وهذا ما قاله بطريقة او بأخرى عدد من الشخصيات والسياسية والعسكرية والامنية في تحالف الفتح الحشد الشعبي.
وقد لاتكون زيارة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين لايران للمرة الثانية خلال اقل من شهر بعيدة عن تفاعلات وتداعيات المحاولات الاميركية المتواصلة لخلط الاوراق وتأزيم الامور.
صحيح ان هناك قضايا شائكة وملفات متداخلة بين بغداد وطهران، ذات طابع اقتصادي وسياسي، من قبيل الاستحقاقات المالية لطهران في ذمة بغداد وكيفية تسديدها، المتعلقة بعوائد تصدير الغاز الايراني للعراق، لكن يبدو ان هناك امورا اخرى اكثر الحاحا، جعلت رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يوفد وزير خارجية حكومته الى طهران في هذا الوقت بالذات، كما سربت ذلك مصادر واوساط قريبة من الحكومة، كان اخرها واهمها القصف الاميركي الاخير لمقرات لحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية.
ومن الطبيعي جدا ان تحرص بغداد كثيرا على خفض حدة التصعيد، في ذات الوقت الذي يفترض فيه التركيز على انهاء التواجد الاجنبي من اراضي البلاد كما دعت المرجعية الدينية والرأي العام وكما قرر البرلمان، بيد ان وقائع المشهد الاقليمي العام توحي ان القضايا متشابكة والملفات متداخلة، وواشنطن تتحرك بذات الاليات والسياقات السابقة، في حين تأمل التوصل الى نتائج مغايرة، رغم ادراكها ان معادلات القوة ليست في صالحها بالكامل، او انها ليست في صالحها بمقدار كبير، فقصفها الحشد الشعبي، والقصف الاسرائيلي لسوريا، وتحركات اخرى من هذا القبيل، يمكن ان تقابل برد فعل قوي ومربك ومقلق بالنسبة لها ولتل ابيب، ربما تكون المسيّرات اليمنية(Drones) التي وصلت الى العمق السعودي من جديد، واحراق السفينة الاسرائيلية في عرض البحر، اشارات ورسائل اولية وليست نهائية!.