23 ديسمبر، 2024 3:48 م

خلافة الإمام علي ونهاية عصر الراشدين

خلافة الإمام علي ونهاية عصر الراشدين

كان النصف الاول من خلافة عثمان يسير بشكل طبيعي وكانت الدولة خلاله مستقرَّة، لكن بحلول عام 31 هـ بدأت القلاقل والتوترات تظهر وتتصاعد، واستمرَّت حتى نهاية عهده ونهاية دولة الخلافة الراشدة بأكملها. من بين الاضطرابات الأولى التي واجهها عثمان في خلافته حادثة مقتل الهرمزان وجفينة الجهني وابنة أبي لؤلؤة على يد عبد الله بن عمرقصاصاً لأبيه إلا أنَّه قام بذلك دون أمرٍ من الخليفة وطالب البعض بقتل ابن عمر قصاصاً لأنه تجاوز القانون بينما صعب على البعض ذلك وسوَّى عثمان الأمر بأن دفع الديَّة لابن الهرمزان من ماله الخاص وانتهت المشكلة.لاحقاً بدأت الاضطرابات تنشب في الدولة. وكان من الأسباب الرئيسة لذلك أقارب عثمان الذين كان يقربهم إليه أكثر من الآخرين ويعطيهم الأموال والمناصب وفضل بعض أقربائه ونسبائه بمنحهم منصب الولاية فتوالت الاعتراضات والشكَّاوى من ظلم أقربائه والمطالبة بخلعهم وأصبح يبدل ولاة الأقاليم مرَّة تلو الأخرى. كما اعترض آخرون على الترف الذي استشرى في مجتمع المدينة المنورة حيث انقلب مجتمعها من حياة الفقر والتواضع في عصر الرسول إلى الغنى واللهو في عصر عثمان وذلك نتيجة الأموال والغنائم الكبيرة التي أتت بها الفتوحات.انتشرت الفتنة واشتدَّت في الولايات والأقاليم، وفي نهاية عام 34 هـ جاءت إلى المدينة وفودٌ من الأقاليم بدعوى الحج، فتفاوضوا مع عثمان، ولانوا، لكن يقال أنهم بينما كانوا عائدين إلى أقاليمهم قابلوا رسولاً من عثمان، فأمسكوه، ووجدوا معه رسالة يأمر فيها والي مصر بقتلهم، فعادوا إلى المدينة وبدأوا الثورة عليه ضرب الثوار الحصار على منزل عثمان وبينما الحال كذلك جاء يوم الجمعة، فخرج إلى المنبر ليخطب، وخاطب الثوار في كلامه، وقام أحد الصحابة يشهد على قوله، بينما قام آخر يعترض، ونشب قتالٌ في المسجد، وضُرِبَ عثمان خلاله، فأغمي عليه وحمل إلى منزله ظلَّ عثمان محاصراً في منزله أياماً، ومعه عددٌ من الصحابة يحرسونه، بينهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، حتى بدأ الثوار يحاولون اقتحام منزله نفسه، فأحرقوا الباب، ودخلوا المنزل، ثم ضُرِبَ بسيفٍ وقتل ونهب منزله في 18 ذي الحجة عام 35 هـ وعمره اثنان وثمانون عاماً وبعد خلافةٍ دامت اثني عشر سنة..(1).
خلافة الإمام علي.
بعد مقتل عُثمان بن عفَّان اتخذ الانقسام الذي أفرزته الثورة عليه طابعًا نهائيًّا بفعل عمق الجرح واتساع الهوَّة بين الفئات مُتناقضة التوجهات في المُجتمع الإسلامي، وخَلَق فرزًا اجتماعيًّا جذريًّا بين الجمهور القبلي من جانب، وبين النخبة القُرشيَّة من جانبٍ آخر، بالإضافة إلى ولادة الفِرق السياسيَّة، ونُشوء الفكر السياسي في تاريخ الإسلام. كان الخيار المطروح بعد مقتل عُثمان هو إمَّا العودة إلى نظام عُمر بن الخطَّاب الذي اعتمد أساسًا على المصالح القبليَّة وقيمها، وإمَّا الاستمرار على نهج عُثمان من واقع النظام الجديد الذي يعتمد على أولويَّة المصالح القُرشيَّة، وقد توزَّعت مواقف الصحابة بخاصَّة والمُسلمين بعامَّة بين هذين الخيارين، وقد تبنّى عليًّا مطالب الثائرين في حين جسَّد مُعاوية بن أبي سُفيان الاستمراريَّة الحيَّة المُباشرة لنهج عُثمان.كان الثائرون ما يزالون يُسيطرون على المدينة، ويملكون ناصية القرار السياسي والعسكري، إلَّا أنهم لم يُمارسوا السلطة فعليًّا وافتقروا إلى الرؤية الواضحة للخروج من المأزق الذي خلقته حركتهم، هذا في الوقت الذي أخذ فيه مُعظم الصحابة يتوارون عن الأنظار في عاصمة الخِلافة، مُفضِّلين الابتعاد عن التطوّرات التي أفلتت من أيديهم، وكان الفراغ في السُلطة يُنذر بأسوأ النتائج، واشتدَّت الحاجة إلى مُنقذ يتمتَّع بتأييد الأغلبيَّة في التوجهات السياسيَّة وبخاصَّة المُمثلة لجماعة الثائرين. بناءً على هذا توجَّه بعض الصحابة من المُهاجرين والأنصار نحو عليّ وخاطبوه قائلين: «إنَّ هذا الرجل قد قُتل ولا بُدَّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدًا أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله »والواضح أنَّ معالم شخصيَّة عليّ وحياته العامَّة جعلته آنذاك رجل الإسلام المُهم، وكان اسمه يفرض نفسه، فهو الأكثر نشاطًا من خلال الأزمة، والذي بدا من خلال هذا الموقع المُحاور الوحيد بعد انكفاء طلحة والزُبير واعتزال سعد بن أبي وقَّاص، وهم الأربعة الذين بقوا من أهل الشورى، ومثَّلوا النخبة السياسيَّة في المدينة، كما أنَّه لم يكن موضع اتهام. ولم يكن عليّ في البداية راغبًا في تولّي الخِلافة، وخاطب الذين رشّحوه قائلًا: «لا تفعلوا فإني أكون وزيرًا خيرٌ من أن أكون أميرًا». عندئذٍ صعَّد أهل الأمصار ضغوطهم، فهدَّدوا أهل المدينة بقتل هؤلاء الثلاثة: عليّ وطلحة والزُبير وناسٌ كثير، مما دفع عليّ بقبول البيعة خوفًا من الفتنة، وخشيةً على الدين والمُسلمين من مزيدٍ من التمزّق، وهدف إلى وأد الفتنة وإعادة تجميع جسم الأمَّة المُتناثر وترميم النظام القائم للسُلطة، وتعزيز التواصل بين القوى الاجتماعيَّة الأكثر اعتدالًا والأقل تورُّطًا في قتل عُثمان.(2).
بعد قبول الإمام علي لبيعة الناس في المدينة والتفاف من بقي من الصحابة حوله أدركت الإرستقراطية القرشية ممثلة بالبيت الاموي وعلى راسها معاوية بن ابي سفيان أنه الطوفان ولابد من الوقوف ضده باي ثمن فرفعت شعارمظلومية عثمان والثارمن قتلته وجعلت قميص عثمان رمزا للحركة المزعومة.وتفاقمت المشاكل لاحقًا في عهد عليّ بن أبي طالب وقد انتهى العهد الراشِدي واقعيًّا بعد أن تحاكم عليّ ومُعاوية بن أبي سُفيان بعد رفع المصاحف في معركة صفين وانقسمت الدولة على إقليمين أحدهما خاضعٌ لعليّ والآخر لمُعاوية وانتهت تمامًا بعد أن تنازل الحسن بن علي عن الخِلافة لمُعاوية في عام الجماعة حقنًا لدماء المُسلمين وبعد وفاة الحسن ثبَّت مُعاوية الحكم في البيت الأموي وجعلها وراثيَّة فكان بذلك المؤسس للدولة الأموية.خلاصة موضوع الإجماع.صار واضحا الآن أن ما يؤسس مبدأ الإجماع كـ”أصل للتشريع” هو سلطة السلف والتقليد أي ما عبر عنه أبو حامد الغزالي بـ “العادة”. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي : من أين جاءت سلطة السالف هذه وما طبيعتها؟يقول علال الفاسي، وهو من أبرز رجال “السلفية الجديدة” في المغرب، في معرض رده على الذين طعنوا في إمكان قيام الإجماع، يقول : “والحقيقة أن الإجماع ذو أصل أصيل في الدين”. وآيات القرآن وأحاديث النبي صريحة في مشروعية العمل بما وقع عليه الإجماع من المؤمنين. ولكن استعمال الإجماع بعد وفاة النبي (ص) في تثبيت طريقة اختيار الخليفة وفي طريقة الحكم الشورى هو الذي شكك الشيعة ومن انحدر منهم من المعتزلة في أمر الإجماع وحجيته. فحينما توفي النبي (ص) ولم يخلف وصية بمن يخلفه أدت الروح الإسلامية المبنية على التشاور بين المؤمنين إلى قيام الأمة بواجبها في حفظ النظام وحماية البيضة، فاجتمع العارفون في السقيفة وتبادلوا الرأي والدليل، وأجمعوا بعد ذلك أمرهم على مبايعة أبي بكر، ثم وقع إجماع الأمة على قبول ما فعلوه وصار الصدّيق خليفة للرسول غير منازع من أحد (…). وهكذا نجد أن الإجماع أدى أعظم خدمة للإسلام، إذ فتح باب الاجتهاد والشورى وسهل مواصلة العمل الذي قام به عليه السلام. ولكن العصر الأول كان يمتاز بالتشاور في كل ما لا نص فيه، فكان أهل الحل والعقد يشتركون في وضع أسس تاريخية واجتماعية لمصدر الإجماع الشرعي. فلما انحرف المسلمون عن نظام الخلافة والشورى واقتبسوا من الفرس نظاما يقوم على أساس الحكم المطلق الوراثي، الأمر الذي أثار كثيرا من الانتقاد الذي أعلنه المجتهدون وقادة المسلمين، فكان لا بد من تقييد النظر لحماية السلطة المطلقة الصاعدة، وقد أصاب ذلك، فيما أصاب، فكرةَ الإجماع الحقيقية كما فهمها المسلمون الأولون، وأَحدَث حولها خلافا بَعُدَ بها عن محيطها الأصلي. فالإجماع كما يتحدث عنه منذ القرن السادس عبارة عن اتفاق الناس في كل بقعة من بقاع الأرض، وذلك بالطبع ما لم يفهمه المسلمون الأولون وما لا تدل عليه نصوص الكتاب والسنة”(3).نحن هنا أمام ثلاثة أفكار رئيسية :1) إن الإجماع ولو أنه “أصل أصيل في الدين” (لم يقل أصل من أصول الدين)، فإن أمره يرجع تاريخيا إلى حادثة سياسية، وهي اجتماع الصحابة لاختيار خليفة للنبي عليه السلام بعد وفاته.2) إن العصر الأول، عصر الصحابة، عصر بناء الدولة الإسلامية، قد امتاز بالتشاور في كل ما لا نص فيه، وأنه من خلال عملية التشاور هذه “كان أهل الحل والعقد يشتركون في وضع أسس تاريخية واجتماعية لمصدر الإجماع الشرعي”، بمعنى أن “الإجماع” كأصل من أصول التشريع إنما يجد مصدره في التاريخ والمجتمع، لا في أي شيء آخر، وأنه إنما يعني من الناحية العملية: التشاور في كل ما لا نص فيه.3) إن تحول الحكم في الإسلام بعد “العصر الأول” إلى “الحكم المطلق الوراثي” قد أدى إلى “تقييد النظر” والقضاء على “التشاور” وبالتالي على المضمون الحقيقي لفكرة الإجماع.لا شك أننا هنا أمام تأويل موضوعي تاريخي لنشأة فكرة “الإجماع” وتطورها، ولا نظن أحدا من المفكرين يعارض اليوم النتائج السياسية التي يفرضها هذا التأويل والتي يعبر عنها علال الفاسي نفسه حينما يدعو الدول الإسلامية “أن تجعل من أنظمتها الديمقراطية الحديثة سبيلا لبعث الشورى الإسلامية وتحقيق معنى الإجماع الإسلامي لأول مرة”. ويصيف : “إن الاستبداد الذي أصاب نظام الحكم الإسلامي هو الذي حول التطور في تنظيم الشورى والإجماع إلى مجادلات فارغة في حجية الإجماع وإمكان وقوعه وعدم ذلك”(4).إن هذا يعني، بعبارة أخرى، أن كل المناقشات والخلافات والاعتراضات التي عرفها تاريخ الفقه الإسلامي حول “الإجماع” كانت نتيجتها الملموسة، ولربما الوحيدة، هي تمييع فكرة الإجماع وبالتالي إقرار الاستبداد. ولا يعني هذا أن الفقهاء قد أرادوا ذلك واختاروه، بل إن تغلب الاستبداد و”انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض” كما يقولون، هو الذي أدى إلى ذلك.هذه القراءة السياسية قد يقبلها المؤرخ فضلا عن السياسي. غير أن الباحث الإيبيستيمولوجي (الفاحص لأسس المعرفة) لا يستطيع أن يقف عند حدود القبول، بل هو يتساءل ويتفحص ويستنتج. وفي هذا الصدد لا بد من القول إن تمييع فكرة الإجماع لفائدة الاستبداد في “الحاضر”، حاضر الفقهاء في كل عصر وجيل، قد جعل الأنظار تتجه بـ “الإجماع” إلى الماضي، إلى “السلف” لتجعل منه ليس فقط المؤسس لـ “الإجماع” كـ “أصل” تشريعي، بل أيضا كخاصية لـ “المدينة الفاضلة” التي مورس فيها وحدها. والنتيجة هي استبداد “مدينة السلف”، هذه المتخيلة، بعقول الفقهاء، مما أضاف إلى الاستبداد الجائر القائم في “الحاضر” استبدادا آخر “فاضلا” ماضيا، فكان الاستبداد الذي عانى منه العقل البياني استبدادين : استبداد الحكام بالسياسة، واستبداد السلف بالمعرفة، ومن دون شك فإن الوقوع في الثاني إنما كان بسبب الهروب من الأول، بسبب عدم القدرة على مواجهته والتصدي له.(5).
للحديث بقية……………………………………………………………
1-محمود شاكر،التاريخ الإسلامي – ج 3: الخلفاء الراشدون، ص240.
2-إبراهيم، أيمن . الإسلام والسُلطان والملك. دمشق-سوريا: دار الحصاد للنشر والتوزيع. صفحة 262.
3-علال الفاسي. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. ص115-116).
4-نفسه 117-118).
5-محمد عابد الجابري،قراءة سياسية لأصل “الإجماع”،ص1-3.