المفكرون العرب ينسبون التأخر الذي أصاب الأمة إلى عوامل خارجة عنها ويعضهم يقترب بإستحياء من عوامل قائمة فيها , ويغيب عن إقتراباتهم خطايا وآثام العلماء العرب الذين ما أوجدوا أسسا للتواصل العلمي , وما أسسوا مدارس للعلم والتعلم , وإنما إعتبروا العلم مقصور على الخواص , وأنه قوة عليها أن تحوم حول الكراسي وتوظف لصالح السلطان , وبهذا السلوك أسهموا بموت العقل العلمي في الأمة , وركزوا على الموضوعات الدينية , التي هي وسائل يضعونها بيد السلطان لتأمين الحكم والسيطرة على الناس , ولهذا إزدهرت المذاهب والتصورات المرتبطة بالدين , وبموجبها حكم السلاطين وتعزز دور العمائم وهيمن الفقهاء على العامة , وتنعموا بالعطايا والوجاهة والسلطان.
فالعلماء العرب وبلا إستثناء أهملوا إنشاء المدارس العلمية , وتجاهلوا نشر العلم وبناء العقل العلمي للأمة , لأن في ذلك خطر على الحكم وتأثير على هيبتهم ومنافعهم وقيمتهم , فكان وجودهم في دوائر صغيرة خاصة تحيط الكرسي وتتفاعل مع إرادة السلطان الذي يتحكم بمصيرهم , وينالون منه ما يريدون من المنافع والأموال.
ولهذا تجد العديد منهم قد إنشغلوا بموضوعات فلسفية ودينية لأنها تدر عليهم منافع الدنيا وغنائمها , أما نشر العلم بين الناس وإقامة المدارس التي تعلمه وتحفز عقول الأمة على البحث والدراسة والإبتكار , فأنها كانت أشبه بالمحرمات , فلا يوجد في أي بلد عربي تأريخ لمثل هذه المدارس , وإنما معظم المدارس كانت مقامة بأوامر سلطانية لخدمة هذا التوجه المذهبي أو ذاك مما يخدم مصالح الكراسي ويعزز الطغيان.
ووفقا لذلك فأن العلماء العرب قد إرتكبوا خطيئة لا تغتفر بحق الأمة , أوصلتها إلى ما هي عليه من الهوان وفقدان قدرات التواصل العلمي المعاصر , وهي التي بدأت قبل غيرها من الأمم والشعوب والبلدان.
فتخيلوا لو أن العلماء قد أسسوا البنية التحتية لمسيرة علمية منذ ذلك الوقت , لكانت الأمة هي الرائدة والقائدة في ميادين العلوم كافة , بينما علومها ومنطلقاتها البحثية والإبتكارية قد إنتقلت إلى أوربا الغاطسة في ظلام عصورها وهذياناتها , فبعثت النور في الرؤوس وتواصلت مسيرات العلم بين الأجيال , حتى تمكنت من تحقيق ما أنجزته من مبتكرات ذات دور حضاري مؤثر في مسيرة البشرية.
إذن العيب في العلماء العرب الذين لم يفكروا بآليات حضارية إستشرافية , وإنما خيمت على رؤاهم الأنانية والمنافع الآنية , والتفاعل النفعي مع الكراسي , وخدمتهم للسلاطين , مما أزرى بهم لتقلب الأهواء والأحوال , وتبدل الأزمان.
وبهذا أسهم العلماء العرب بعزل الأمة وتعطيل عقلها عن قصد أو غير قصد , فلا يزال تأثير هذا السلوك المتطرف فاعلا في الأمة , فهي التي ترى أن فيها قلة خواص وكثرة عوام , وهذا منهج إستعبادي إمتهاني يتنافى مع أبسط المعاني الإنسانية ويلغي حقوق الإنسان , ويرى أن الأمة مكونة من سادة وعبيد , وأن العوام حرام عليهم التعلم والمعرفة وتوظيف العقل , وأن الخواص هم الذين يعرفون ويتأمرون والعوام يتبعون.
ولا بد من العودة إلى بناء العقل العلمي لكي تكون الأمة ويتحقق التعبير الأمثل عن جوهرها الحضاري الأصيل.
فهل من منهج علمي بصير؟!!