23 ديسمبر، 2024 9:03 ص

خطاب “البغدادي” تحت المجهر

خطاب “البغدادي” تحت المجهر

خرج أخيرا ، أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الأسلامية “داعش” ، بتسجيل صوتي أستغرق نصف ساعة ، حاول من خلاله حشد قوى أتباعه من أجل الوقوف بوجه القوات العراقية وقوى التحالف الدولي والأقليمي ومؤشرا في الوقت ذاته على تصميمه بخوض معركة الموصل وعدم الهروب أو ألأنسحاب منها حيث قال  “إياكم والضعف عن جهاد عدوكم ودفعه وأن ثمن بقائكم في أرضكم بعزّكم أهون بألف مرة من ثمن انسحابكم عنها بذلّكم”.وبقراءات متعددة لهذا الخطاب (المهم)، نستنتج أولا أن صياغته بدت هستيرية أكثر منها واقعية ، وأن جمع شتات محاوره تعطي بمجملها إحساسا بفلتان القدرة على السيطرة والتحكم أكثر منها تلويحا بالنصر ، وإن دس البغدادي مابين سطوره آيات قرآنية أرتكزت على الصبر ومحاربة ” الصليبيين والدولة العلمانية (تركيا) والمملكة العربية السعودية ” .
القراءة الأولى ، تناقض الصورة والتوصية حيث أن البغدادي أكد في مواضع كثيرة من خطابه أن الثبات في الموصل سيكون “تقدمة للنصر المكين وإرهاصا للفتح المبين” ،إلا أنه أشار في موضع آخر  أن تنظيم الدولة “داعش” قد ينسحب في نهاية المطاف من الموصل إذا ما أستمرت القوات المهاجمة (العراقية) والداعمة (التحالف الدولي) ، بالتقدم لإستراداد المدينة من قبضة مقاتليه وهو ما مهدّ له بالقول أن مدينة الموصل ما هي إلا ولاية من ولايات دولة “الخلافة” .القراءة الثانية ، أرتبطت بتسديد البغدادي رسالته إعلاميا وتعبويا إلى ابناء السنّة بشكل عام والعراقيين منهم بشكل خاص من خلال أعتبار تنظيمه ممثلا لهم وحاميا لحقوقهم وبقائهم ، وقد تلاعب بإلفاظ تؤثر بقوة في ابناء (سنّة) العراق ، وربما العالم الإسلامي كله من خلال تذكيرهم وتأنيبهم بما قامت به المليشيات الشيعية والإيرانية برجالهم ونسائهم ومدنهم ومستقبل بقائهم في هذه المدن ، وهو إذ ينتقد أداءهم وردود أفعالهم ، فإنه في واقع الحال يستدرجهم للوقوف مع دولته من خلال خلخلة الأوضاع الأمنية في مناطق ما وراء الأشتباكات والمدن الرئيسة ، ولعل تساؤلاته ” أفي كل مرة لا تعقلون؟ استمرأتم الذلة وتهتم كما تاه بنو إسرائيل، أما ترون الرافضة (الشيعة) كل يوم يسومونكم سوء العذاب، يغزون بلادكم بحجة محاربة دولة الخلافة؟” تضع رجالات القبائل العراقية السنيّة والشعوب الدول المحاددة للعراق وسواها ، وهي في جملتها (سنيّة) ، تضعهم في حالة من التأنيب والإحراج وربما الحراك طبقا لما رأوه فعلا من ممارسات مشينة وطائفية من قبل المليشيات الإيرانية والعراقية .
 القراءة الثالثة ، وهي مهمة جدا ، وتتعلق بموضوع الإشارة بالتوجيه إلى أتباعه بعدم الهروب أو الأنسحاب من الموصل ، وقد قال البغدادي لمقاتليه “وما أمامكم إلا إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة” وفي موضع آخر “فاثبتوا فإما حياة عزيزة كريمة، وإما قتلة سعيدة وشهادة مشرِّفة”؛ وهذا الأمر في الحقيقة ذو تأثيران سلبي وإيجابي على المقاتلين من تنظيمه ، فأما الإيجابي ؛ فهو تذكير بالثبات ومن ثم الفوز بإحدى الحسنيين ، النصر أو الشهادة (بحسب البغدادي) ، وأما السلبي ، فقد اكد البغدادي من خلال طلبه هذا وجود حالات هروب جماعية ومؤثرة من الموصل بإتجاهات مختلفة بما يؤثر على ميزان صموده وثباته كمقاوما لكل القوات المهاجمة .
قراءة رابعة ، هي ربط أهل الموصل بمصير مقاتليه في المعارك الدائرة والتي ستجري ، من خلال وسمهم بالأنصار ومقاتليه بالمهاجرين ، ومعلوم وفق المفاهيم الإسلامية فإن الأنصار ليس لهم أن يتنصلوا عن الأشتراك في المعارك والفتوحات ؛ وهم ما يعني تجنيدا إلزاميا للشباب الموصلي تحت أمرة قيادات من تنظيمه ، وهو ما أكدته مصادر من داخل مدينة الموصل حيث ذكرت بإن ، التنظيم يوجه دعوات لشباب المدينة عبر مكبرات الصوت في المساجد للمشاركة في الجهاد دفاعاً عن مدينتهم.
القراءة الخامسة هي غياب تام للإشارة إلى دور الأكراد في معارك نينوى منذ بدايتها وحتى اليوم ، بالرغم من أن الأكراد كانوا من أكثر القطعات أو التشكيلات العسكرية العراقية تمكنا من السيطرة وإعادة الكثير من المدن والأقضية والقرى من قبضة “داعش” ، وهو ما يعني سعي البغدادي ، لإبقاء حالة من اللاحرب واللاسلم مع أقليم كردستان لإبعادهم عن معركة مدينة الموصل لعلمه أن القوات الكردية الآن تمثل اقوى القطعات المهاجمة واكثرها تدريبا وتسليحا وأنضباطا ، وأيضا دعما دوليا .
القراءة السادسة ، وهي مرتبطة بالجو العام المحيط بالمنطقة وبنتائج المعارك التي سبقت معركة مدينة الموصل ، فكل الأهواء والمؤشرات والرؤى تذهب إلى أن تنظيم الدولة سيلفظ أنفاسه الأخيرة في أهم معاقله وأكبرها ؛ الموصل والرقة ، وهنا ، لا يستبعد البغدادي ذلك أبدا ، بل أنه يؤكد فلسفة التنيظم في موضوع الأحتفاظ بالأراضي ، حيث أنه غير معني بمسك الأرض بشكل لانهائي ، وإنما هو معني بما يحققه من أضرار في هذه الأرض بعد أضطراره للأنسحاب منها ، والأنسحاب هنا وربما التشتت سيكون خطرا جدا بسبب وجود عدة ولايات في عدة دول تدين بالولاء والطاعة للبغدادي وللتنظيم .
القراءة السابعة تمثل حالة الغضب الشديد الذي يعتري البغدادي جراء تدخل تركيا في الملف السوري والعراقي ، والأكثر وضوحا دورها في تقليم أظافر التنظيم في مناطق سورية كثيرة ؛ هذا الغضب الشديد على (تركيا) التي وصفها بالـ”العلمانية” وقال عنها “ظلت خلال جهادنا خاسئة خانسة، تطل بقرن وتستخفي بقرن، تسعى لتحقيق مصالحها في شمال العراق وأطراف الشام ثم ترتد خشية أن يصلها المجاهدون في عقر دارها بجحيم عملياتهم، ثم دخلت في حربنا مسندة بطائرات تحالف الصليب، مستغلة انشغال المجاهدين” ، وهو وبعد هذا التمهيد يدعو أتباعه وأنصاره إلى “غزو تركيا التي دخلت في دائرة عملكم ومشروع جهادكم،حولوا أمنها فزعا ورخاءها هلعا، وأدرجوها في دائرة صراعاتكم الملتهبة، فإن دم أحد جنودها كدم الكلب خسة” ، فهل هذا الكلام هو خدمة لتركيا التي أحرجت بموضوع مبررات التدخل في العراق ، أم خدمة لإيران وحكومة العبادي التي ترفض هذا التدخل (حصريا) بتركيا ؟ . وما قاله عن تركيا ، أصاب في الكثير من سهامه المملكة العرابية السعودية بشكل خاص .
ثامن القراءات ؛ غياب ذكر الدور الإيراني في خطاب البغدادي ، وهو أمر غريب جدا ، بدا للكثير من المتابعين وكأنه أعد سلفا لتعمية المتلقي عن دور هذه الدولة التي تشرف مباشرة على سير المعارك في العراق والشام وتتهيأ وتهيأ المليشيات الطائفية ذات الولاء المطلق لها ، للقيام بالمتغيرات الديموغرافية لصالح مشروعها الخاص بولاية الفقيه !
القراءة التاسعة كانت في تحريض وتوجيه البغدادي لإتباعه بالتعرض للمؤسسات الإعلامية والإعلاميين الذين يساندون تركيا والمملكة العربية السعودية وكل من يحرّض ضد تنظيم الدولة لصالح هاتين الدوليتين ، وهو أمر لم يتطرق له زعيم التنظيم من قبل بما يدل بشكل واضح على حجم تأثير الحرب النفسية (الإعلامية) على معنويات مقاتليه و( الأنصار) وكل الحواضن المتوقعة أو الفعلية لهم.