لم تعد اللغة البشرية ، كما أشيع لعقود طويلة خلت ، مجرد وعاء مادي تصب فيه وتلتقي عنده مكنونات الفكر وإرهاصات الوعي ، وإنما أصبحت في ضوء منهجيات العلوم اللسانية المعاصرة ؛ حقل من أغنى حقول التفاعل الاجتماعي ، ومجال من أعمق مجالات التداول الرمزي ، وفضاء من أوسع فضاءات التواصل الإنساني . ولذلك لم تعد تكفي الإشارة إلى طبيعة المجتمع ، الذي تخلقت في رحمه واستوعبت طبيعته وتلونت بثقافاته وتمثلت بقيمه . بقدر ما صار لتأثيرها الانعكاسي على ذلك المجتمع من تداعيات وانثيالات ، طالت الأفراد والجماعات على حدّ سواء ، لجهة علاقاتهم الثقافية وصراعاتهم الاجتماعية وحساسياتهم الدينية واستقطاباتهم المذهبية وانتحاءاتهم الجهوية . وإذ نستخدم مفردة (اللغة) في هذا المقام ، فإننا لا نتعاطى معها كما لو أنها عنصر من عناصر السرد الروائي أو مكون من مكونات النظرية الأدبية ، وإنما من منطلق كونها عنصر جوهري من عناصر الهوية الثقافية وركن حيوي من أركان المتخيل الجمعي . ولعل من المفيد هنا توضيح مسألة ضرورية ينبغي ايلائها العانية اللازمة ، تلك التي تتعلق بالانتقائية القصدية لاستخدامنا مفاهيم مثل (الأنا) و(النحن) ضمن إطار هذا الموضوع . إذ إن (الأنا) المقصود لا يعود لأنا (الفرد) مثلما لا يعني أنا (المجتمع) ، بل انه يستهدف أنا (الجماعة) . ولعل الفرق – بالنسبة لمن يمتلك حصيلة ثقافية مناسبة – واضح وصريح بين هذه المفردات ؛ إن لجهة الدور والوظيفة ، أو لجهة المعنى والدلالة . كما إن تعاطينا مع مفهوم (النحن) لا يقصد منه نحن (الجماعة) النوعية ، التي تشاطر غيرها من الجماعات الأخرى في الانتماء لنحن (المجتمع) الشامل والولاء لرموزه وقيمه الجمعية . إنما نستهدف أنا (الطائفة) المذهبية التي تحاول التسلل إلى السياسة والتطلع إلى السلطة ، لا لفرض إرادتها الفئوية على بقية المكونات الاجتماعية ، سواء بمنطق الكثرة العددية أو بوسائل القوة البوليسية فحسب ، وإنما تعميم رؤيتها الاختزالية للدين (التدين) وجعلها بمثابة تصور شمولي ينبغي على بقية الأطراف الامتثال لخطابه والإذعان لتوجهاته . وعليه فان من أبرز خصائص خطاب (الأنا الطائفي) هو التحصن خلف ذات الطائفة (المتخيلة) – إذ ليس بالضرورة أن يشاطر جميع أعضاء الطائفة المعنية تهويمات خطاب (أناهم) الطائفي – والتمترس وراء مخيالهم المذهبي ، وبالتالي رفض أي نمط من أنماط الحوار مع (النحن) الاجتماعي ، باعتباره كيان ينزع لإزالة الفواصل بين عناصره وإلغاء التفاضل بين مكوناته . ومهما حاولت جاهدة (الأنا الطائفي) إخفاء نوازعها للتفرد والتسيد ، فان خطابها ذو النبرة الأحادية لا يلبث أن يفضح سوسيولجيتها الاقصائية للآخر ، ويعري سيكولوجيتها العدوانية ضد المغاير . وهكذا ففيما يستباح الوطن (العراق) ويذبح المواطن (العراقي) ، فان نبرة التخوين والتكفير لا زالت تتصدر عناوين خطاب (الأنا الطائفي) على نحو أكثر جسارة وأكثر وقاحة ، بحيث إن المفردات المستخدمة والكلمات المتداولة في سياق الخاطبات الطائفية المتعارضة ، باتت أكثر شحنا”للكراهية المتقابلة ، وأشد إثارة للعدوانية المتبادلة . فعلى وقع شيوع أخبار تقسيم دولة العراق إلى ثلاث أقاليم / كيانات مستقطبة قوميا”/ عرقيا”، ودينيا”/ طائفيا”، فقد بدأت تصدح – بلا خجل أو تأنيب ضمير – حناجر كل الرموز الطائفية (الشيعية والسنية) ، بالإعلان عن (حقوق) طوائفها والمطالبة بضمان أمنها وسلامتها من عدوان وغدر الآخر ، حتى دون تجشم عناء تغليفها بمعسول الكلام عن التمسك بحبل (الوطن) والتمسح بأهداب (الوطنية) ، التي كانت تخفي تحت بريقها المزيف وجوه المتاجرين بالدين والمساومين بالسياسة . واليوم فيما يتخبط خطاب (أنا) الطائفة الشيعية حول خلافة (السيد المالكي) لرئاسة الحكومة المقبلة – هل يمكن حقا”أن تكون حكومة مقبلة ؟؟!! – مشترطة عدم خروج هذا الاستحقاق عن مظلة (التحالف الوطني) ، فان تشنج خطاب (أنا) الطائفة السنية دفع به – وهذا مؤشر آخر على جهله بالعمل السياسي وله في ذلك سابقة – إلى إعلان رفضه الانخراط بالعملية السياسية الجاري التمهيد لها ، عبر امتناع مرشحي (القائمة الوطنية) عن حضور جلسات البرلمان التي عقدت يوم الثلاثاء المصادف 1 تموز 2014 ( وياليتها لم تعقد لستر عورات المتاجرين بمصير هذا البلد وشعبه ) . وبين هذا وذاك فقد حمل خطاب (أنا) القومية الكردية جملة من الاشتراطات التعجيزية التي بدون الاستجابة لها والعمل على تنفيذها ، فان قرار (الانفصال) عن الدولة العراقية سيكون هو الخيار الوحيد المطروح أمام القيادة الكردستانية لضمان حقوق الشعب الكردي ، عملا”بمبدأ ( أطرق الحديد وهو حامي) حيث الحكومة المركزية في أسوأ أيام ولايتها المنتهية ، وهو الأمر يعتبر بالمنظور الوطني طريقة غير مشروعة للضغط على ذراع السلطة الاتحادية في أكثر أجزائها ضعفا”وإيلاما”. ومن علامات استعصاء الحلول للإشكاليات العراقية المتفاقمة هي إن الخطاب السياسي / الحزبي لكل أطراف الأزمة ، لكي يستر هزاله ويخفي ضحالته ويداري تخلفه ، غالبا”ما يلوذ بالخطاب الديني / الطائفي للاحتماء بهالته والاتكاء على شعبيته ، بحيث جرى تبادل الأدوار وتناقل الوظائف بين رجال الدين ورجال السياسة . فالأول أصبح ينظّر بخطاب السياسة ويفكّر بنصاب السلطة ، وان الثاني أمسى يتلفّع بغطاء الدين ويتشفّع بنداء الطائفة . وفي خضم هذه (الأنوات) الواحدية والتعصبية ضاع حوار (النحن) الوطني وتعطلت لغة التواصل الإنساني ، اللذان بدون الاحتكام إليهما والشروع منهما ، سيبقى الجرح العراقي ينزف دما”وعلى كافة الجبهات ، لا فرق بين مكونات (أنا) الطائفة الشيعية ، أو مكونات (أنا) الطائفة السنية ، أو مكونات (أنا) القومية الكردية . لا بل كلما أسقط الحوار بين (الأخوة الأعداء) باعتباره السبيل الأمثل لتخطي أزماتهم وتجاوز خلافاتهم ، كلما زاد السعار السياسي ، وتعزز الانشطار الاجتماعي ، وتفاقم الانهيار الأمني ، وحين ذاك لن يكون الخاسر الأكبر في هذا الأتون الدموي سوى الوطن المستباح والمواطن المنتهك !! .
[email protected]