(خريطة وطن) – قصة قصيرة

(خريطة وطن) – قصة قصيرة

تسمرت واقفا على قمة تلة تمتد على جانبي وقفتي هذه؛دعامات الحدود. كنت قد وصلت إليها قبل ساعة وربما اقل او اكثر. أردت ان استعيد في زيارتي لها؛ تأريخ من الدم والألم والحزن والكبرياء كان قد مضى وانقضى، إنما ظل ماثلا في ذهني وروحي كل هذه العقود من السنين التي انتهت. واسترجع بها؛ ارواح اصدقائي الشهداء، احلامهم، طموحاتهم، وحبهم للحياة. وجدتني بعدها اشعر بالتعب من وقفتي. جلست وعنقي مشرئبه  الى السماء الملبدة بالغيوم السود. أسمع من بعيد صدى صوت صديقي الخطاط؛ ” سمير ضع البطانية على كامل جسد سامي، حتى الرأس. لا اريد ان أرى عينيه وهي تحدق فيَ” من ثم اجهش بالبكاء. النقيب رعد من مواقعه صاح بالجنود المرابطون في الربية وعلى امتداد الساتر الترابي : “ضعوه على النقالة وانزلوا به بسرعة الى مقر السرية”. نظرت إليه والنقالة تهبط به الى الاسفل. يمسكا بها من طرفيها، سجاد، وحسنين. تدافعت في دماغي كلماته التي قالها لي قبل اقل ربما من دقيقة. كانت كل كلماته تصرخ في رأسي. وددت في تلك الثانية ان اصرخ بكل ما بي من صوتفي جميع هذه النواحي الضاجة بأزيز الرصاص ودوي المدافع : أوقوفها. لاتزال اغراضه وكل حاجياته، ساعة اليد، صورة له مع خطيبته، وكمية من دنانير، ودفتر صفحاته ممتلئة بالكتابة، الا ثلاث او اربع صفحات؛ خط فيها مشروع رواية. وضعتها في جيبي، افردت منها صورته مع حطيبته، مع الدفتر. تأملتهما مليا. احسني في تلك اللحظة التي باتت بعيدة جدا؛ اتمزق حتى صرت فريسة الحزن والغضب. بدى المستقبل ضبابي ورمادي في عقلي ونفسي. بعد يوم من استشهاد، سجاد، وحسنين، قلت لذات نفسي بصمت مؤلم؛ لا اريد ان اموت، اريد ان اعيش، ان احقق جميع احلامي. سامي استشهد قبل يومين، من الآن. لقد كان يحلم بالزواج، ومشروع رواية كان قد بدأ بكتابتها قبل سنة، وتحقيق امنيات أخرى، طالما حدثني به. : سمير بعد يومين سأنزل بإجازة، اتزوج ريام حبيبتي بها، وسوف أكمل ايضا خلال الاجازة مخطوطة الرواية، تعاونني في اتمامها ريام. اخذت أتأمل الربية التي تبعد عني امتار ليس الا. لقد كانت ذات يوم تعج بأصوات الجنود ودوي قذائف المدفعية التي كانت في حينها تعبر من فوقنا. اصبحت الآن كأنها اثار تحكي عن سنوات كانت قد مرت عليها، وعن الجنود الشهداء، وعن الكم الهائل من الدماء التي سالت عليها حتى انها لو تجمعت كلها وفي كل سنواتها في لحظة واحدة من الزمن؛ لشكلت انهار تنحدر منها الى الوادي. هب نسيم رقيق. داعب صفحة وجهي بنعومة فارطة. تمددت على الرمال، اغمضت عينيَ. اخذت اتفكر في الذي الآن، أنا فيه، وفي الذي كان. اشعرني كل جسدي بالاسترخاء، إما عقلي ونفسي كانا حزينان. انظر الى السماء بعينيَ علني ارى في قلب السماء وطنا. كان، في نقطة الارتكاز المكاني، في ذات زمن الارتكاز؛ ضيعيني وضاع مني. اركض بين السحاب عاريا تماما من كل ما يستر جسدي الذي خط عليه صديقي الخطاط خارطة  الوطن.. تحوم في سماءه طيور الحب والسلام، قبل فتح فوهات المدافع عليها؛ لقد ماتت من زمن، صار بعيدا، لم يعد لها وجودا. حلت محلها البندقية، في ذلك الزمن الذي اصبح طي النسيان. الا انه ظل دوما يتجول بحرية في ممرات دماغي الذي دفعت به، ضرباتها الى التشتت والتيه في صحراء لا حدود لها وبلا بوصلة تؤشر لي؛ طريق الخروج من صحراء التيه هذه. خارطة الوطن على جسدي، في التحديد المكاني والحصري، على كل مساحة صدري. صديقي قال لي وهو قد انتهى من رسمها: هذه خارطة وطن حتى لا يضيع منك في غفلة من الزمن المقبل الذي ربما قد يكون سيء ورديء.

السماء تكاثفت عليها الغيوم، حتى تحولت في برهة سريعة جدا الى قطعة معتمة الى الدرجة التي، في اللحظة التالية؛ رأيتها كأنها حطت على ارض المثابة التي كنت قد وقفت عليها قبل دقائق لا اكثر. تراجع النسيم الرقيق، أذ، هبت رياح شديدة الهبوب تنذر بعاصفة قادمة، حد اني صرت في وقفتي هذه في اعماق الغيوم التي اصبحت حركتها سريعة كأنها صاروخ اطلق توا من مكان عبر منه إليها كل بحار ومحيطات الكون كله.ركضت بين الغيوم اسابق ركضها، صرنا هي وانا في سباق محموم من يصل الاول قبل الأخر. في حومة هذا الصراع التسابقي؛ كان هناك حولنا وميض وبرق ودوي يصم الاذان ومذنبات تنطلق ليس من بين الغيوم كما هو معروف لي، مما استفز عقلي وهيج في داخلي كل مكامن القلق والترقب، بل انها كانت قد انطلقت من امكنة هي الأخرى كانت خارج رؤيتي لها؛ لذا، لم يكن في إمكاني ان احدد امكنة اطلاقها. لم يمض وقتا طويلا الا ورأيتني اسقط على الارض فوق اديم التلة المثابة. اخذت اتأمل السماء التي ما عادت هي السماء التي كانت عليها قبل حين؛ صارت كتلة من نار وحديد ودخان. سمعت حين اصخت سمعي الى ما كان قد جاءني من صراخ واصوات استغاثة مصحوبة بندب النادبات ونواح الناحات. سألتني؛ من اين كل هذا النواح والصراخ الذي نسيت ان اتنبه له؛ فقد كان معه هناك وهنا وفي جميع الامكنة حولي؛ انفجار الصواريخ وازيز الرصاص بلا توقف حتى ولو للحظة او حتى لبرهة اقل ربما من رمش العين. دوخني كل هذا الذي جرى لي، فلم اعد اعي ما جرى ويجري في لحظة الآن، حولي، وفي جميع الانحاء المحيطة بوقفتي هذه. ثم هطل مطرا غزيرا على تلة المثابة التي لم ازل فيها رغم كل هذا الذي جرى ويستمر يجري امامي، وفي جميع الانحاء المحيطة بي. اردت النزول والاحتماء من هذا المطر الغزير تحت شجرة قريبة او بناية متروكة من زمن الحرب، لكن لم يكن هناك اي اثر لما ابحثه عنه. تكورت على نفسي كي احمي جسدي ولو قليلا من المطر والعصف الذي بدأ الآن توا. كنت فريسة للمطر والعصف. الغرابة التي استولت عليَ في لحظتي هذه؛ لا المطر ولا عصف الرياح كانا كما عهدتهما، كانا لا يشبهان المطر الذي ينعم الله به على اصقاعنا هذه، ولا الرياح كانت هي رياح من طبيعة الرياح. ظللت على هذه الحال لوقت لا اعرف مدته. عندما استعدت بصري ورؤيتي؛ رأيت ما لم يكن في حساباتي ابدا؛ ان ألتقيهما، سامي وصديقي الخطاط. قلت لهما؛ من جاء بكما؟ أجابني صديقي الخطاط نحن هنا معك، إنما انت لم تنتبه لوجودنا. كانا عاريان كما أنا. الخطاط صديقي صرخ في وجهي؛ سمير، لماذا، ازلت خريطة الوطن من على جسدك يا صديقي؟ ؛انها هنا قلت له. ركزنا انظارنا نحن الثلاث على بقايا الخريطة التي كان قد رسمها فارس صديقي على جسدي، على الصدر تحديدا. كانت حدودها قد انمحت لم يبق منها الا خطوط باهتة جدا، لا تكاد ترى. عندها قال فارس؛ سوف اعيد رسمها، هذه المرة بألوان، وبالذات حدودها، لا يمكن ان يزيلها المطر مهما كانت قوته. ايقظتني من نومتي هذه، التي اغرقتني غفوتي فيها، على الرغم مني، في نومة مضطربة؛ ضُبَاح، عواء، قباع، زمجرة، نباح، على مقربة مني. فركت وجهي بكلتا يدي. فتحت عينيَ على سعتهما. كان السكون يعم المكان. الشمس في السماء، اختفت تماما وراء الغيوم السود، سواد شديد السواد. نزلت الى الوادي ونفسي ممتلئة بالحزن والألم. ادرت محرك سيارتي، عائدا الى العمارة، مدينتي الطيبة، بطيبة لا تحد طبيتها حدود. في الطريق، فتحت مذياع السيارة. بغداد والشعراء والصور.. غمرني بالهدوء والسكينة، صوت فيروز، الشجي، الوحشي، المتمرد..

أحدث المقالات

أحدث المقالات