كلما إستقلت السيارة لزيارة بغداد تداهمني في الطريق الطويل ذكريات أيام الشباب التي قضيت شطرا منها في بغداد درة الدنيا وحاضرة الزمان . ولايظنن أحد بأني أبالغ في الوصف ، فبغداد كانت وعلى مر عصور التاريخ أجمل عواصم العالم قاطبة ، ولولا إبتلاؤها بحكام طغاة وتعرض البلاد الى ساحة الحروب وبالتالي عدم الإستقرار الأمني والسياسي فيها ، ولو أنها تنفست ولو لفترة وجيزة دون أن تبتلي بالحروب و الإنقلابات العسكرية التي تلاحقت الواحدة تلو الأخرى ، وتمتعت بنوع من الحكم الرشيد ، لكانت بغداد أصبحت اليوم بمصاف عواصم العالم المتقدمة .
لا أعتقد بأن أحدا ممن زار بغداد في فترات عمره ينسى بهاء وجمال شارع الرشيد قلب بغداد النابض عبر العصور المتلاحقة ، فلابد أنه مر يوما من هناك وإندهش لهذا الجمال الفتان ، ولعل الزائر مثلي سوف تداعبه ذكريات جميلة عن هذا الشارع البديع بمحلاتها وأزقتها وأسواقها . فإنطلاقا من ساحة الميدان التي يتجمع فيها كل أنواع النسيج المجتمعي العراقي بمكوناته وأطيافه المختلفة ، ستجد على رأس الشارع ، مقهي أم كلثوم لصاحبه عبدالمعين الموصلي والذي قضيت فيه أجمل ساعات الصفاء الروحي وأنا أستمع الى صوت سيدة الغناء العربي وكوكب الشرق أم كلثوم ، وأتفحص وجوه الشباب والشياب الجالسين هناك وهم يستمعون مثلي خاشعين الى النغمات السحرية التي تلامس شغاف القلب ، شعرا ولحنا وصوتا ، فترى ذلك الأشيب ساهما غارقا في بحر ذكرياته عن أيام الصبا والشباب ، وذاك الشاب يجر نفسا عميقا من سيجارته ذائبا في بحر غرامه متمايلا مع كل كلمة ونغمة صادرة عن مسجل البكرة الدوارة .
ولاننسى قبل أن نتخذ مسارنا نحو شارع الرشيد أن نلتفت يمنة لنتفحص مكان فندق الهلال الكبير الذي شهد في ثلاثينيات القرن الماضي حفلة رائعة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم ، لتعقبها حفلات أخرى للباشا سليمة مراد ثم لفاتنة بغداد عفيفة أسكندر ونسترجع هناك أغانيهم الجميلة . ثم ننطلق صعودا نحو فندق أبو أحمد وهو فندق الكركوكيين ، وعلى بعد عشرة أمتار منه هناك فندق أربيل مقابل جامع الحيدرخانة وقد كانت إدارة مجلة ( المتفرج ) قريبة منها وكنت أذهب اليها لتسليم موادي الصحفية ، حيث كنت مراسلا للمجلة في أربيل منذ عام 1969 ويرافقني دائما رفيق العمر الأستاذ المرحوم طارق ابراهيم شريف الذي كان يعمل بدوره مراسلا لمجلة الفكاهة البغدادية . وكنا نعمل معا قبل أن يغلق الحكام البعثيين جميع الصحف والمجلات الأهلية والمستقلة ليدخل العراق في ظلمة الإعلام الحزبي الموجه . وكم مررنا من أمام مطاعم هذا الشارع ومقاهيه ( حسن عجمي والبرلمان والزهاوي ) وندلف أسواقه ( سوق السراي ، سوق البنات ، سوق الصفافير ، الشورجة ، سوق الهرج ) . ونمر من أمام سينمات ( روكسي ، الوطني ، الخيام ، الرشيد ) . وكم تطلعنا مندهشين الى مبنى المصرف المركزي وبجانبه مصرف الرافدين.وكم صعدنا الى الطابق الثاني لاورزدي باك . وكم وقفنا أمام المصور أرشاك ومحل الجقماقجي للأسطونات لنستمع الى أغاني علي مردان ومحمد القبانجي وعزيز علي وزهور حسين .وكم توقفنا عند مكتبة المكنزي نتطلع الى عناوين الكتب الصادرة حديثا . هذه الذكريات سكنت في جيناتنا ولا يمكن للزمن مهما طال أن يمحوها من ذاكرتنا .
اليوم زرت هذا الشارع العريق فماذا وجدت ؟. خرابة في خرابة في خرابة !!!. الشارع الذي كان يسهر مشاته وراكبيه الى ساعات الصباح ، الشارع الذي يضاء بكل الألوان ، تحول في غفلة من الزمن الى … خرابة و مدينة أشباح !!.
فقبل أيام أردت إسترجاع تلك الذكريات الجميلة ممنيا النفس بأن أرى واجهة تلك المحلات مرة أخرى ، وأشتم ريحة العمبة والطرشي والشاي أبو الهيل ، وأنظر الى الواجهة الزجاجية لمحل بقلاوة الشكرجي ، وأشرب هناك كلاص شربت الحاج أبو زبالة ، لكني لم أجد ولو محلا واحدا مفتوحا ، ولا وجدت مصباحا مشتعلا ، وكأن القيامة قد قامت ، أو أن زلزالا مدمرا أو فيضانا عارما جرف كل شيء ، وجدته خاويا إلا من قمامات مرمية وسط الشارع وأعمدة متآكلة وشناشيل آيلة للسقوط ، ورصيف مغرق في مستنقعات مياه آسنة . لقد تحول الشارع الى مدينة للأموات بعد أن كان درة شوارع بغداد ! . تحسرت على أيام مجده وعزه وفخاره ، حين كانت سيارات أمانة العاصمة تغسل هذا الشارع في الساعة الرابعة صباحا لكي يستيقظ المواطن ويرى الشارع نظيفا لامعا . فلا حاوية مليئة ، ولا حصى ملقاة هنا أو هناك .كادت الدموع أن تنهمر كالسيل من هول ما رأيت . فياترى هل أنا في كابوس مزعج ، أم أن ما أراه هي حقيقة ؟. لماذا هذا الإهمال المتعمد لأحد أجمل شوارع بغداد . هل هو الحقد على الماضي ، أم هو حقد على التسمية !! . أتساءل ، هل أن من يحكمون العراق الآن مروا ذات يوم بهذا الشارع الجميل ليروا بأعينهم ما آلت اليه الأوضاع ؟. ألا يرون حجم الكارثة التي حلت بالعاصمة بإهمال هذا الشارع ؟. ترى هل هم فعلا عراقيون أو أنهم من سكان كوكب آخر جاؤوا في غفلة من الزمن ليحكموا هذه البلاد ؟ ألا تتحرك ضمائرهم عند مشاهدة هذا الحال المؤسف لشارع الرشيد الذي هو عنوان مجد وفخر العراقيين على مر العصور ؟.
نفذ في أربيل قبل أكثر من عشر سنوات مشروع ضخم لإعادة ترميم وتأهيل السوق الكبير المعروف بـ( سوق القيصرية ) ورصدت لأجل هذا المشروع ميزانية معتبرة من حصة المحافظة من أموال تنمية الأقاليم ، وجرى العمل على ترميم وتحديث وتجميل السوق داخليا وخارجيا ، وأصبح السوق بحلته القشيبة محط أنظار السياح الوافدين الى المحافظة . ونفذ مشروع مماثل لإعادة تأهيل وتجميل شارع المتنبي ببغداد ، فلماذا لا تتحرك الحكومة العراقية لتنفيذ مشروع مماثل لإعادة ترميم وتجميل شارع الرشيد لكي يستعيد بهائه وجماله ويكون عنوانا للعراق الجديد الذي نتطلع الى بنائه وإعادة إستنهاضه .
التقارير تؤكد سرقة أكثر من خمسمائة مليار دولار من أموال الدولة في السنوات السابقة من قبل بعض المسؤولين الفاسدين بالحكومات العراقية المتعاقبة ، وحان الوقت لكي نمني النفس بتوجه الحكومة الجديدة الحالية الى العمل بجدية لإنهاء ظاهرة الفساد ووقف سرقة وهدر أموال الدولة بمشاريع وهمية ، وأن تأخذ على عاتقها وأولوياتها إعادة تأهيل وتجميل هذا الشارع الذي يرتبط بوجدان كل عراقي بإختلاف إنتماءاته القومية والمذهبية . فهل يا ترى سنستعيد مجد هذا الشارع من جديد ؟.هذه صرخة إستغاثة للحكومة العراقية الجديدة التي نود أن نذكرها بتلك الرائعة الفيروزية :
بغدادُ والشُّعراءُ والصُوَرُ.. ذَهَبُ الزمانِ وضَوعُهُ العَطِرُ
يا ألفَ لَيلةَ يا مُكَمّلَةَ الْـأَعْراس يَغسِلُ وجهَكِ القمرُ .