23 ديسمبر، 2024 9:54 ص

خدود البرتقالةِ المفقودة

خدود البرتقالةِ المفقودة

حَلّقَ صَدى تَكبيراتٍ على أجنحةِ نسائِمَ فجرٍ ذي يومٍ برَبيع, مُرَفرفةٍ أمامَ نافذةِ حُجرتي لِتُوقِظَني من نومٍ بأضغاثٍ كانت لي هي الضجيع. جاهَدْتُ لنهوضٍ كأنّي أسيرُ حربٍ أو لكأنِّي لبونٌ رضيع، ثمَّ إنسَلَلْتُ فتَسَلَّلتُ بعدَ وضوءٍ خاطفٍ بِخُطىً مُرتَجفةٍ بين أزقةِ حَيِّنا الوديع, الى حيث مسجدِها المُستَقِّر على ضفةِ دجلةَ, وذلك نهري أنا : نهرٌ خالدٌ وديع!

لكنَّ أمرَ المسجدِ أمرٌ مُستَغرَبٌ وفظيعٌ ! فالحيُّ كلّهُ خلفَهُ, فلِمَ التطرفُ في موقعِهِ, وذلكَ هو أمرٌ في الهندسةِ وضيعٌ, بل هو شنيع!
(أوليسَ المعابدُ تتوسطُ أحياءَها ! فما بالُ مسجدنا من أطرافِها لآذانهِ يُذيع!).
كنتُ أرمي الخُطى وسطَ ظُلمةٍ في الحيّ تُخفي البلايا, وسُباتٍ مطبِقٍ من قاطنيهِ من الرعايا, كانوا في صمتٍ مُغرَقون كلهمُ, صمتٌ إلتقمَ حتى مما في الحيِّ من هَوامٍ وعظايا.
كنتُ أنَقِّبُ عن موطئِ قدمٍ لكلِّ خطوةٍ من خُطايا, مُتَغَمِّساً بآمالِ عفوٍ و غفرانٍ يزيلُ الخَطايا, ومُتَوَجِساً ألّا تقعَ الخطى على هُرَيْرَةٍ جارٍ لي ودودٍ طيّبِ السجايا. هُرَيْرَةٌ مُسبلةُ الجفونِ فَأُفزِعُها فَتُفزِعُني وكلانا حسن النوايا, أو أن أنتهِكَ ملكيّةَ سياجٍ لكلبٍ مُستَرخٍ حَذوَهُ ولِسانُهُ يلهثُ مُحَذِّراً : “لا تقترب يا صاحبي فالهوى هاهنا هوايا” فيَغضبُ الكلبُ مني فيُطلقُ دَوِّياً مَكتوماً مَتبوعاً بِنَبحةِ غضبٍ تُميتُ النبضَ والحنايا, ويأبى تِكرارَها ولو أمدّوه بمددٍ من كلابِ صيدٍ في سرايا, فنَدخلا نحنُ الإثنانِ في نِزاعٍ غيرِ مسبوقٍ بتفاوضٍ دبلوماسي معهودٍ في هكذا قضايا، أو..
أن تقعَ تلكَ الخُطى وسطَ بُحيرةٍ آسنةٍ من بحيراتٍ فضيةٍ مُتناثرةِ الزوايا. بحيراتٌ وُلِدَتْ من أرحامِ أنشطةِ نساءِ الحيّ لنهارِ إنقضى و نشاطِ ما عندهنَّ من صبايا. صبايا يقضينَ يومَهنَّ مُتَبَسِّماتٍ بِتَغَنُّجٍ وغرورٍ قِبَالَة أصنافٍ وألوانٍ من مرايا, ويترعرعْنَ ما بينَ جبالٍ من حِليةٍ وقلائدَ و عطايا, ومابين تلالٍ من كسوةٍ, بعضُها مبتاعٌ بثَمنٍ وأكثرُها إستعارةٌ أو هدايا.
دخلتُ الحرمَ فتَطايرَتْ في فضائِهِ المنيرِ وحشةُ رحلَتي بين رعبِ الرَبايا, وَلأستَغشيَ فيهِ بِثمارِ رحمةٍ مقطوعةٍ لا ممنوعة وخالِصةً لأهلِ مسجدي زُكاةِ المزايا.
أكملتُ نُسُكي وكررتُ عَوْداً في رحلةٍ مُتَلَهِّفة, حيثُ الدفءُ في سريرٍ مُرتَقبٍ وتَرَفِ وِسادةٍ مُتَصَوِّفة, لكنَّها كانت رِحلةٌ عن إختِها الأولى مختلفةٌ، فالشَّمسُ قد أطلّتْ بخدودٍ خَجولةٍ أليفةٍ مؤتَلِفة, لتستأذنَ الظلامَ بمَحوٍ, كي تنطلِقَ يدايَ الى الخيرات مُعتاشَةً مُغتَرِفة، ولِيوليَ توجسِي من هُريرةِ جاري اللعوبِ المُتَعجرفة, ولِيُفَلَّيَ فَزعي من إنتهاكِ السيادةِ لخصيمي الكلبِ ذي الميول المتطرِفة، والبحيراتُ الفضيةُ أضحت مرئيةً لا يُخشى ماؤها, وتراها مُستَرخيةً ولدروبِ الحيِّ باتت مُزَخرِفة.
وصَلتُ الدّارَ فوقفتُ عند بابِها مُتَدَبِّراً ذاكَ الكنز ذاكا..
كنزٌ لخدودِ شمسٍ ساحرةٍ , كأنَّها تهفو لِلُقياكا!
ويكأنّها خدودُ برتقالةٍ ترنو معانقَتِكَ وتحنو لسُقياكَا !
وكأنَّكَ أنتَ تبغي تحليقاً لعناقٍ معها ولتحقيق مناكا .
خدودٌ حنونٌ تَكشفُ لكَ عن نفسِها في لحظاتِها هذهِ بحنانٍ مُستَعطِفةً, لتَحتَفي بك بعدَ رحلةِ دُجىً في مسراكا.
دَندَنْتُ لِنفسي بكلماتٍ قبلَ أن ألِجَ إلى حيث منامِي بِثقيلِ رثاءٍ :
يا لِبهاءِ خدودِ برتقالةٍ غَيَّبتُها عن بصائري بجفاءٍ, بل..
ما كنتُ أفتقدُها لِلَهوٍ منّي وإنشغالٍ بغباءٍ, وسطَ هرولةٍ هوجاءَ عوراءَ, وراءَ بصلٍ وعدسٍ وقثاءٍ, في زحمةٍ (عولمةٍ) صماءَ بكماءَ عمياء و مُبغِضَةٍ لكلَّ بهاءٍ وهناء.