منذ السنوات الأولى في المدرسة ونحن نسمع بمصطلح الأمية والجهل والتخلف وغيرها من التوصيفات السلبية التي تتكرر في رؤوس الأجيال , وتغيرت حكومات وحكومات , ولانزال نسمع ذات الأسطوانة المشروحة , أمية وجهل…, وما فكرت الحكومات من التخلص من أصفاد الأمية والجهل , بل أنها تنامت وإستشرت حسب إدعاءاتها , ومن يمثلونها ويستفيدون منها , وحتى المتاجرين بالدين يروّجون لهذه المفاهيم لكي لا تفسد بضاعتهم المعلبة بالدجل والأضاليل البهتانية.
وبعد أن دارت الأيام بعقودها وتقدمت البشرية , وأعلنت ثورتها التكنولوجية والتواصلية السريعة الخلاقة العابرة للحدود والمخترقة للمصدات , والفاعلة في كل بيت من بيوت الخلق في مشارق الأرض ومغاربها , وأصبح في جيب البشر أجهزة يمكنهم بواسطتها أن يتواصلوا مع الدنيا بما فيها من معارف وتطورات ومستجدات , صار الكلام عن الأمية نوع من الهراء , فما عاد البشر محروما من المعرفة ولا بعيدا عن نهرها الدافق الفياض , وإنما صارت المعلومة والمعرفة تأتي إليه كلمح البصر أينما كان.
ومن الواضخ أن الثورة المعلوماتية الكوكبية قد أثرت كثيرا على الوعي البشري , وأمدته بمعين لا ينضب من المعلومات المتفاعلة مع وعيه والمؤثر في عقله , والتي أجبرته على أن يؤمن بأن في رأسه دماغ عليه أن يستعمله , لكي يتمكن من التواصل وإستيعاب الدفق العارم من المعلومات والمعارف الوافدة إليه , ولهذا تجدنا أمام واقع بشري جديد ونوعي , فما عاد فيه ما يسمى بالأمية والجهل , وإنما الوعي قد تفتق والعقول أخذت تعمل وتتأمل , والسؤال صار مفروضا عليها , ولا بد لها أن تجيب , أو لا تقنع بالجواب.
فالأمية لا تعني عدم القراءة والكتابة , فالذي لا يقرأ توفر له الثورة التكنولوجية تقنياتها الوسائل السمعية والبصرية , التي تنقل إليه الفكرة بتفاصيل مبسطة ومفهومة , ولهذا فأن الكلام مع الناس في أصقاع الدنيا يشير إلى أن التوزيع الحر للمعرفة قد ساد وإنتصر , فالعولمة المعرفية ساوت بين جميع البشر , ولم يعد هناك فارق إلا بما يحدده البشر نفسه , أي الذي لا يريد أن يتذوق ويتفاعل مع تيار الحياة الساطع الأنوار.
ويمكن القول أن التنوير التكنلوجي المتصاخب قد زعزع العقول في مواطن كثيرة , وأهلها للدخول في ميادين العصر المعرفية بأنواعها , مما تسبب بإزعاج وقلق للذين يستثمرون بالتجهيل والأمية , التي يسوقون فيها بضاعاتهم الفاسدة , مما حداهم إلى محاربتها والعمل على إبعادها عن الناس , لكنهم لن يتمكنوا من الصمود أمام هذا الثوران البركاني المهتاج والذي يزداد فورانا وتدفقا مع الأيام.
ولهذا فأن الحياة سيقرر مصيرها الجماهير التي تنورت بدفق المعارف , الوافدة إليها عبر شبكات الإنترنيت ووسائل التواصل الإجتماعي بأنواعها , وما عاد هناك مكان ودور لأعداء التنوير المعرفي والعقل الفعّال المتحفز للبحث عن الجواب.
قد يقول قائل أن في ما تقدم شيئ من الإنحياز والإغفال للأضرار التي جاءت مع هذه التطورات التكنولوجية , لكن الواقع يشير إلى أن البشرية في طريقها للتحول إلى أمة إنسانية واحدة , عبر شرايين الإنترنيت المتدفقة بالمعارف الحيوية والضرورية للتفاعل الخلاق الممتع اللذيذ!!
فلا أمية بعد اليوم , والبشر يعرف على قدر إستطاعته , والأمية في الذين يتصورون أن الأمية آفة لا تزال فاعلة ولكن فيهم لوحدهم!!