كانت ختيارات أيام زمان كحيلات، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فقد كن يحلبن الغنم، ويخضن اللبن بالشجوة، ويكنسن المرابض (الدوار )، ويقمن بفصل الحملان، والصخال، ويقمرن شملات القمح خلف الحواصيد، ويصنعن البرغل بسلق قمح الكبارية في قدرهن النحاسي الكبير على النار، ويصنعن الجشج مؤونة للشتاء ، ويعملن الرشدة بايديهن من عجين القمح، بعد تقطيعه بالسكين .
وكن عندما يفاجأن بأن المؤونة مع بداية موسم الحصاد الجديد من العام، قد أوشكت على النفاد، وأن الكوارة( مخزن الطحين) قد بدت لهن فارغة ، وأن الكولكة( حجرة خزن القمح ) لم يتبقى فيها شيء من قمح ، فإنهن يسارعن، وقد شددن أطراف جلبابهن في احزمتهن ( الشويحي) الذي نسجنه بيدهن من غزلهن من صوف غنمهن ، لتقوم واحدتهن بقطف سنابل القمح، من زرعهم المحيط ببيادرهم بالمنجل،ثم تقوم بنقل السنابل إلى البيت على كتفها، بعباءة الصوف ( البشت)، التي كانت قد غزلتها بيدها من صوف الغنم، وحاكتها بيدها ،لتشرع بدق السنابل بعصاها الغليظة، في فضاء البيت.وما أن تنتهي من سحقها، تقوم بتذريها على الهواء ( بالسرادي)، وهو غربال اوسع فتحات من منخل الدقيق، لفصل حب القمح عن التبن العالق به، ثم تقوم بعد ذلك بطحن القمح على الرحى بيدها، حيث تقوم بعجن الدقيق الذي صنعته توا، بالمخمر الخشبي، إذ تنهض لسجر تنور الطين ببعر الأغنام، وقليل من الشوك والعاكول، حيث تقوم بتقطيع العجين الطازج بيدها إلى كتل بحجم كفها، وتمطه بين كفيها ليترقق،ثم تخبزه على التنور ، لتخرجه بعد أن يجف وينضج، رغيف خبز حار، يفوح رائعة زكية، حيث تقوم بتقديمه لعيالها وجبة طعام شهية، مع زبدة ولبن الغنم (خاثر) سائغا للشاربين ، وأحياناً مع السمن الحر المدبس من الظرف. ولك أن تتخيل الطعم اللذيذ، والنكهة الرائعة، لهذه الوجبة الطازجة بكل مكوناتها.
هكذا كانت ختيارات أيام زمان، كحيلات حقاً، يواجهن صعوبات الحياة،بروح إيجابية، ومن دون تذمر، ولذلك لا يزال ذلك الجيل الذي عاصرهن، وعاش مفردات ذلك الموروث الريفي الجميلة بتفاصيلها، أيام زمان، يحن،ويستذكر حلاوة تلك الأيام، بعد أن سئم ضجيج العصرنة الصاخب، وبعد أن أفسد الغذاء المعلب ذائقته ،بما يحويه من مواد مضافة، وكيماويات حافظة ، أضرت كثيراً بالصحة العامة للناس.
صفحات ماضي مكتضة بمعاناة قاسية، لكنها كانت مفعمة بالسعادة، مع كل تلك الصعوبات . مفردات تراث جميل، انطوت مع صفحة أيام ولت، ولن تعود .