خالد الحلي شاعر المنفى وصوت الطفولة البعيد

خالد الحلي شاعر المنفى وصوت الطفولة البعيد

حين يُذكر اسم خالد الحلي، تتداعى في الذاكرة صور لمهاجر قديم حمل في قلبه وجع الحلة، وفي روحه هدير نهر الفرات، وفي حقائبه المتعبة أوراقًا صفراء كتبتها يد ترتجف من الحنين. لم يكن خالد الحلي مجرّد شاعر أو صحفي؛ بل كان سفيرًا لوجدان العراق المهاجر، وصوتًا لجيلٍ تاه بين الانقلابات والمنفى، بين المدن الغريبة ولهجة أمه في الزقاق القديم.
وُلد في مدينة الحلة عام 1945، تلك المدينة التي أنجبت شعراء وكتابًا وكان لها مع اللغة نسب قديم. نشأ بين بساتينها وأزقتها، وكتب أولى نصوصه في سن مبكرة، حتى إذا بلغ السابعة عشرة كان قد أصدر أول كتبه: “عينان بلا لون”، مزيج من الشعر والنثر، يكشف مبكرًا عن حساسيته المفرطة تجاه التفاصيل، وعن رؤيته للعالم كخسارة جميلة.
لم يكمل دراسته الثانوية، لكنه تعلّم من الحياة أكثر مما يُعلَّم في الجامعات. مارس الصحافة في العراق لمدة 16 عامًا، حتى غادره في 1979، مثقلًا بما لا يُقال. تنقّل بين المغرب والإمارات، واشتغل بالصحافة الثقافية، ثم استقر في أستراليا التي منحته جنسية لا تمحو جنسيته الأولى، بل تمنح لمنفاه صفة الاعتراف.
في المنفى، ظل يكتب. كتب ليقاوم التلاشي. كتب ليحتفظ بملامحه. كتب عن الغربة كمن يكتب وصيته الأخيرة. في المغرب أصدر مجموعته المهمة “مدن غائمة”، ثم تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان “اسمك ذاكرتي”، كأنما أراد أن يقول إن القصيدة هي الوطن حين يغيب الوطن.
في أستراليا، كتب باللغتين. أصدر مجموعته “لا أحد يعرف اسمي”، وشاركه في الترجمة الدكتور رغيد النحاس، وفيها نبرة الإنسان الوحيد وسط مدن تتكلم بلغة لا تترجم دفء “الگهوة” ولا رائحة تنور الأمهات. تبعتها أعمال مثل “ما كان.. كيف كان؟” و”إلى أين؟” و”مطرٌ عاطر”، وعينه دومًا على العراق، لا كجغرافيا بل كحالة شعرية، كطفولة لا تموت، كقصيدة لم تكتمل بعد.
نقّاد كثر كتبوا عن شعره. بعضهم رأى في أسلوبه امتدادًا لمدرسة البياتي والسيّاب، من حيث البوح الشخصي واللغة المرهفة، لكنهم أشاروا إلى أن الحلي يمتاز بعزلة فنية تجعله لا يُشبه إلا نفسه. لغته هادئة، لكنها تقطر ألمًا، قصائده تفيض من قلب ساكن، لكنها تصيب كالسهم. إنه شاعر الحنين الهادئ، لا يفجّر صوته، بل يهمس بما يجعل القلب يوجع.

كتب الناقد جورج صليب الذي ترجم مجموعته “ما كان.. كيف كان؟”، أن خالد الحلي “لا يكتب شعراً فحسب، بل يكتب تجربته بوصفها مرآة لكل منفيّ لم يعرف طريق العودة”. أما الناقد الدكتور رغيد النحاس، فرأى أن “الحلي يكتب بالذاكرة، ويحفر في الحنين، دون أن يكرر نفسه أو يقع في فخ النحيب التقليدي للمنافي”.
هو شاعر لم يسعَ إلى الشهرة، بل سعت إليه الكلمات. ظل وفيًّا لصوته الخاص، منحازًا للإنسان، للمكان الأول، للأسماء التي تُنسى في المنافي، ولأغاني الصباح في بيت الطين. خالد الحلي لا يكتب الشعر ليُدهش، بل ليبقى حيًا، ليقاوم الغياب، وليتذكره الوطن حين يعود. وإن لم يعد، فقصائده عادت… إلى الحلة، إلى بغداد، إلى قرّاء يبحثون عن شاعر يُشبههم، عن سيرة تعبق بالصدق، وتوجع كالأرض إذا بُورِكت ثم جُرِدت من ماءها.
في زمنٍ هجرت فيه الكلماتُ أصحابَها، بقي خالد الحلي وفيًّا لها، خجولًا من الضوء، عميقًا كالبئر، نقيًّا كأول غيمةٍ في موسم الحنين.

خالد الخلي محمد علي محيي الدين

أحدث المقالات

أحدث المقالات