أمامي الطبعة الثانية من باكورة منتّج الشاعر خالد الحلي ” مدن غائمة”، الصادرة عام 2015 في ملبورن ، فيكتوريا-استراليا، في طبعة أنيقة صمم غلافها الفنان فؤاد الطائي وضمت مجموعة من لوحات الفنان ذاته..
ولا شك أن شيطان الشاعر مُقلٌ في كم ما كتب لكنه جواد من ناحية الشعر ومستواه الفني ومداركه ورؤاه، حيث صقل تجربته الشعرية مذ كان مشرفاً على الصفحة الأدبية لجريدة “المنار” المرموقة في أواسط ستينات القرن المنصرم حتى تعطيلها مباشرة إثر انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968 الذي أرجع البعث ثانية للحكم..
ولا بد من وقفة مع “المنار” فقد كانت تأتينا الى الدار كل يوم وكنا ننتظرها انتظار المشوق المستهام، فقد كان يصدرها الصحفي الكبير عبد العزيز بركات، ويكتب بها عمود “دعني أثرثر”، الصحفي المرموق صادق الأزدي، والثرثرة هنا حكمة وبلاغة واختصار وذكريات ونقد للواقع! أما صفحة الأدب فقد أزدهرت بفعل حذاقة شاعرنا الأستاذ خالد الحلي وحسن إدارته لها وأستقطبت بعض المواهب والأقلام الواعدة التي حظيت برعايته وتشجيعه، ولا شك أنها انعكست في شعره وأحسب أن عمره يومذاك كان في نهاية العقد الثاني أو تخطاه بقليل! ودليلي أن هذه التجربة قد عمّقت أحساس الشاعر وأغنت تجربته الشعرية وزادت من مدده الشعري،ففي قصيدة “هوامش على حالة ما” يقول:
مواطنٌ يحترف الكتابهْ
سار يوماً في دمِ النِّساءْ
فاحترفت أوراقه وغنّتِ الكآبهْ
بين يديه ارتعشت..في الماء صاحت..
فيه صارت حِبرَهُ المفضلَ الأليف
وسار في الرتابهْ
فالقصيدة تحاول أن تبوح وتستحضر ذكرى الشاعر الذي سار في دم من أحب ولا شك إن من من أحب هي الأخرى سارت في دمه.. وانعكست في كتاباته وتجربته واستنزفت منه حبراً، ووجد في الكتابة متعة وأُلفة لا تلغي متعتها الرتابة اليومية لإيقاع حياة متكرر!
في هذه القصيدة يستمر الشاعر:
كيف كتبت يومها حكاية تجهلها
حين ارتمت بين يديك واختفتْ؟
كيف رأيت في يديها ورق الماضي
وكيف كنت قربها..
كيف اختفى بين يديك الوجه
كيف غادرتْ…
والقصيدة من أولها، يتلمس القارىء المتمعن، حالة حب مرت كحلم، وبقي طيفها يزوره ويستفزه استفزازاً جميلا أليفاً لينزف شعراً هامسا يقول القليل ويُخفي الكثير..
والشعر الهامس هو من حيثيات الناقد المرموق الدكتور محمد مندور، أطلقه متفائلاً على شعر المهجر الذي بدا ليناً رقيق النبرة متفكراً ومتأملا ندي الحرف بالمقارنة بالنزعة الخطابية والنبرة العالية التي سادت في شعر النصف الأول من القرن الماضي رغم محاولة الخروج عنها بجماعة الديوان!.. حتى إذا حصلت ثورة الشعر التي قادها ثلاثي العراق بما عرف يومها بالشعر الحر حينها صاح الدكتور مندور: هذا هو الشعر الهامس الذي انتظرته..
يتمثل الشعر الهامس بالنبرة الهادئة وجمال اللفظ وحسن تصوير خلجات النفس وارهاصات الاغتراب، وجمال السبك، والوقوف على الروي بأناة وتنوع مع صدق تمثل في استحضار الذكرى مع مسحة حزن شفيف..
وأنتقل الى ختام القصيدة لأدلل على حسن الختام وربط الختام بالابتداء:
وها هو المساءْ
يعود قرب مقلتيك غامضاً
وأنت في غموضك المبهور،
صوت بائس الغناءْ
….
….
وعدتَ لا تحترفُ الكتابهْ
وعدتَ لا تسير في الرتابهْ
في قصيدة طويلة نسبياً هي “عربات الأشجار” يتأمل الشاعر الطبيعة بأشجارها ومياهها وصخورها، يناجيها ويبثها شكواه، وربما يواسيها، حين يرى الاخضرار شاحباً ذابلاً مغتالاً مقطع الأشلاء، تجره العربات ليصير وقودا! ما يذكرني بمولانا، جلال الدين الرومي في مطولته ” أنين الناي” الذي نسمعه لحنا شجياً باكيا لأنه اقتطع من أرضه.. القصيدة هي سمفونية حزينة من ثلاث حركات تعكس الحالة النفسية والتوتر الذي يمر به شارعرنا المرهف، والتجربة الإنسانية المريرة تستحوذ على مشاعره، سأختار المقطع الأول والثالث، يقول الشاعر خالد الحلي:
(1)
الأشجار كثيفهْ
كيف أواري نفسي بين الأشجارْ
طيف أغطّي… صدري بالأحجارْ
كيف أحاور قلبي… قلبي يخذلني
قلبي يسخر منّي في عربات النارْ
كيف سأغفو..
وضلوعي تكبُرُ تمتد الى الشارع …للريحْ
ياغربة صوتي .. صيحي.. صيحي
فالأشجار كثيفهْ
والقتلى يحيوْن برأسي كالأشجار
وأنا مُلقىً … ملقىً.. ملقىً في عربات النارْ
(3)
أنْ أقتل نفسي خير.. خيرٌ من أقتل غيري
فلأبدأ
وليبدأْ غيري
وهذه القصيدة تحمل لوعة الاغتراب الذي يصل الذروة في الحركة الثانية ولينتهي بالحركة الثالثة في ختام هادىء هامس حزين..ويبدو أن الوقوف على الروي يوفر للشاعر بعض الحرية في الغاء الحالات الإعرابية تخلصاً من الإقواء.. مع تكرار بلاغي لمفردات وعبارات شعرية يهدف الشاعر فيها بتأكيد الحالة الشعرية والشاعرية وخدمة للصوت..
“مدن غائمة ” القصيدة التي تحمل عنوان المجموعة، تأتي في التسلسل الثالثة، ويبدو أن الأستاذ الشاعر خالد الحلي راعى التسلسل الزمني في كتابة القصائد أو أنه قارب ذلك، وفي الحقيقة أن تذييل النصوص بتواريخ كتابتها جدُّ ضروري في الشعر وفي القصص القصيرة لأنه يتيح للقارىء متابعة النضج الفني والفكري لتطور المبدع.. ولكن الشاعر خبَّر بمقدمة قصيرة موجزة أن القصائد السابقة في بداية الستينات وتحديداً 1962، أما قصيدة”مدن غائمة” التي يمكن أن تكون نتاج أواسط الستينات، فترى هي قصائدة أكثر همسأً وأنضج فنياً، فقد ابتعد عن حرارة الحدث وأصبح أكثر تأملاً في رجع الذكرى، التي تأتيه أحياناً بسمة كابوس ثقيل؛ ونوّع القافية وجعلها متحركة مع وقوف قليل على الروي، وأرى التمسك بالقافية والبحور الخليلية (كما هنا الكامل) من سمات القصيدة الستينية.. أما اللغة فهي متماسكة وبقيت العبارة الشعرية مكتنزة وبلغة غنية جميلة الوقع لجمال اللفظ والبناء الشعري، وأقول أن العراق يخلو من سماء غائمة إلا في فصل الشتاء ولِمطرات معدودات، لكنه أراد أن يتنقل في هذه المدن يحمل تجارب مريرة سابقة من حب واعتقال سياسيّ مما جعلته يرى هذه المدن غائمة! حتى وإن كانت زرقاء السماء، فكل قصائد المجموعة كتبت في العراق وفقاً لما صرّح به الشاعر، دونكم القسم الأكبر من “مدن غائمة”:
مُدنٌ من ورق أعبث فيها
أشطب الأيام في جبهتها
مدن أقرأ في عتمتها
أحرفاً تجهلها كل لغهْ
أرتديها .. ترتديني
مدنٌ مكتظة حيناً.. وحيناً فارغهْ
وعلى جبهة ما يحملهُ القادم .. من رف سنيني
مدن أخرى تجيء
كلما أسأل عن بعض بنيها
أو ضفاف النهر فيها
مدن تمشي… وترسو في جبيني
إن تخيلتُ بأني: واحد من ساكنيها
***
عقارب الساعة.. تحملني
في جثث الليل وتخفيني
تتركني..
أسكرُ من نبضتها
حتى إذا أحذر تَنفيني
سأنتقل الى قصائد المجموعة المتأخرة، وهو مقطع من قصيدة “تطواف” التي كتبت عام 1975، ونرى فيها تطوراً ملموساً في البناء الشعري حيث العبارة الشعرية طويلة ومكتنزة وتماسك في بناء اللغة ونبرة هادئة متأملة، وصفاء ذهني وهفوت في القلق، وتكرر الاستفهام، مع اغتراب حقيقي لصيق بهموم النفس وإخراحها متدفقة الحزن والشجن وربما الندم فلنسمع:
هل أبكي في هذا الليل الساخن أم تبكين…؟
أيامي ضاعت منذ سنين
أتعرى في ساحة أشواكي..أنهض مذهولاً
أبحث عن أوراقي.. أرتدالى الشباك لكي أنظر ما يجري
أشهد أجساداً تفتقد الأسماءْ
أشهد جُرحاً يطفو بين الأشياء
لا أبصُر شيئاً
لا أبصر شيئاً
لا أبصر شيئا
وأختتم بمقطع من قصيدة” إضافة قصيرة لأوليات طويلة” كتبت عام 1977، تشكل امتداداً لهموم الشاعر، وفيها تطور واضح وإكثار من صيغ الاستفهام واستحضار الماضي بكل جراحه بصدق، مع لغة مكثفة ذات محمول ذاتي من الماضي الحاضر بقوة:
حين يكون الليل وحيداً سوف أغادر وحدي
أرأيت صديقاً…؟
أرأيت الليلَ وأشجان الليلْ
أرأيت الليل يعلّق مشنقة للقلب ويبكي؟
أرأيت بحاراًأعشقها عند الفجر،، وتغرقني حين يجيء الليل..؟
***
حين أكون بعيداً عن عينيك وعن جسدي
تغرَقُ ذاكرتي
أيامٌ لا تمضي
تاريخٌ لم يُكتبْ
أجيالٌ لم تولدْ
ضمت المجموعة أكثر من ثلاثين قصيدة غطت فترة طويلة من عام 1962 حتى عام 1977 وهي مدة طويلة جدّ غنية بالأحداث من سقوط جمهورية 14تموز في الانقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963الذي طال جميع فئات الشعب، وهزيمة حزيران 1967 المريرة وتغيرات وانقلابات ثم حرب 1973، وانقلاب تموز عام 1968 ومجيء البعث للحكم ثانية، كل هذا لم نجد له صدى في المجموعة الشعرية وإنما سلط الشاعر على هموم هذه المرحلة واتعكاسها في ذات الشاعر، التي يلمسها أو يستشفها من خلال تداخل الذاتي والموضوعي لدى الشاعر..
ودونكم قصيدة أعتبرها مثالاً للحالة الشعرية الهامسة للشاعر في خلولة ليلية مع الذات، حيث تحضُر الذكريات ووجه الحبيبة، حيث أسلوب الخطاب الدافى المعاتب، والذي يبقى محافظاً على حميمية ودفء المشاعر رغم افتراق الطريق! في قصيدة ” كلمات على مفترق الطريق”:
وتخلو الطرقاتْ
وتهبُ بعد أن ينتصفُ الليلُ…
النسماتْ
غضة باردةً تحملُ منكِ
ذلك السرّ الذي يغرق بالوهم..
ويأتي من زوايا الذكرياتْ
ألفَ شيءٍ غامض يرويه عنكِ
وأنا ملقىً على نيران شكّي
ربما أبقى كسيرَ القلبِ أبكي
ربما..
ربما الليل ظلٌّ أسودُ..
يمرحُ عبر الطرقات
***
عندها كنتُ صغيراً أبيضَ القلبِ…
وكنا عاشقيْن
كانت الدنيا حكاياتٍ بريئة
حين كنا
نتروى إن طافتِ الأحرفُ عبر الشفتين
وأرى الشوق بعينيكِ
صُراخاً صامتاً في مقلتينْ
يعكس شعر الأستاذ الشاعر خالد الحلي تجربة الشاعر الحياتية وخلقه وتهذيبه وحديثه الهامس وأدبه الجم، فلا عجب أن يكون شعره تعبيراً حقيقياً وصادقاً صاغه بلغة مكثفة وجميلة وبسبك وبناء متينين، وعواطف نبيلة وحس إنساني بليغ، ولغة عذبة مرهفة..آملاً أن أتوقف مع مجموعته الشعرية الثانية “لا أحد يعرف اسمي”..
تحية للشاعر المبدع حقاً الأستاذ خالد الحلي..
17 أيلول/سبتمبر 2019