يوم أمس وأنا أحتسي قهوتي تحت المطر وهو ينهمر ليغسل القلوب قبل الشجر , وحينما طلت الشمس بخجل من بين الغيوم , وبعثت ألينا بشعاعات خجولة من خيوط الدفيء ,تذكرت أنشودة الطفولة وغنيتها بصوت مسموع وقلت
طلعت الشميسة , على كبر عيشة , عيشة بنت الباشا ,
تلعب بالخرخاشة , صاح الديك بالبستان , الله ينصر السلطان هيهيهيهيه
فضحت ساعتها ضحكة أعادتني لطفولتي التي لم تكن برئية بأمتياز كوني كنت من نشطاء الأطفال في التسلق على الجدران ومتابعة فاكهتي المفضلة بهذ الوقت من السنة وهي ( النبك – السدر) وكنت أعرف أشجارها وأماكنها بحدائق جيراننا وشارعنا ومحلتنا , وقد أعطيت لكل شجرة منها أسمآ , وهي تعرفني كما أعرفها , وتناديني متى نضجت ثمارها , حتى أني أصبحت خبيرآ بأنواعها وأعرف متى ستنضج هذه ومتى ستتأخر الأخرى بنضوجها , وكنت أضع مايسمى بمصائد المغفلين حول شجيراتي الحبيبات حتى لا تسول أنفس البعض التجاوز على حقوق ملكيتي الخاصة بها , فأضع زجاج مكسور على بدايات الأغصان حتى تجرح متسلقيها الغرباء , أو أضع لا صق الفئران على بداياتها لتلصق أيدي المعتدين , وغيرها الكثير , وكنت عندما أتسلق أحداها وأنا أعرف مداخلها ومخارجها ولا أنزل ألا معي كيس كبير من ثمرة (النبك – السدر ) لا يقل عن أربعة أو خمسة كيلو غرام , فغنائم جولاتي تستحق العناء والصبر عليها , واقوم بغسلها وأتمتع بالوانها الذهبية , وأميز كبارها عن أواسطها وصغارها , ولا أستطيع وصف اللذة التي كنت أستمتع بها وأنا أتخير أحسنها وأزكاها وهي تأخذ طريقها الى فمي , وكنت أتبرمك ( أتبرع ) بقسم منها لأخوتي وأصدقائي , , ورغم غزواتي وأقتحام حدائق الجيران وقت الظهيرة وقطع القيلولة عنهم لأتصيد وأراقب عاشقتي شجرة النبك , كانوا جيراننا رحم الله أغلبهم يحبونني رغم شقاوتي معهم حيث أساعد نساء المحلة بحمل تسوقهم ( بالعلاكة ) حين ينزلن من سيارة (الفورد- الكوستر) لأوصلهن الى بيوتهن , أو أقوم بجلب حاجياتهن من دكان المحلة (دكان أبو حميد ) , أو قيامي بحماية محلتنا من الغرباء الذين تسول لهم أنفسهم أقتحام محلتنا أو معاكسة بنات حارتنا وشارعنا , وكم من الصولات والجولات التي هدرت بها دماء الغرباء على أبواب شارعنا حماية لمراهقات محلتنا من المعاكسة والتغزل .
أعود لأخبركم سر ضحكتي بالأمس مع عيشة بنت الباشا , فقد سكن الصمت فكري وعقلي بعدها , حيث تمعنت كثيرآ بمعاني هذه الأنشودة أو ألأهزوجة الطفولية , فأكتشفت أنهم خدعونا وزرعوا فينا صناعة الأصنام وعبادة السلطان , وعدم الخروج عن طاعته ومنحه أيات الولاء والفداء , فطفولتنا تتغنى ( الله ينصر السلطان ) , فتزرع فينا هيبة وتسلط السلطان , وضرورة الهتاف له بالنصر المبين دائمآ , ولا نعلم من أتى به أو أنتخب هذا السلطان , فيبقى أحدنا سائر في طريق السلطان منذ الطفولة رغم جوره وظلمه وأستبداده ونهبه لثرواتنا وخيراتنا , ونبقى نهتف أن الشمس تشع بحب السلطان , فهي لا تأتي ألينا شتاءآ ألا والنصر حليف السلطان , ولا تغيب عنا ألا بقيلولة السلطان , ولا يهطل المطر ألا بأرادة السلطان , ولا معنى لحياتنا ألا بحياة السلطان , سلطان – سلطان – سلطان – تهتف أفواهنا بالسلطان , وتتقافز أجسادنا بالسلطان , وتهزج أشعارنا بالسلطان , ونموت من أجل السلطان , ونحيا من أجل السلطان .
والسلطان يعيش بقصوره الذهبية ويتمتع بثرواتنا السخية , وينهب ميزانيتنا الأنفجارية , ويستحيي حريم السلطان , ورقه للرجال الشجعان , ويتبرع بالبحور والخلجان , ويستوزر الغلمان , ويغزوا بهدي القرأن , فيقتل الشباب ويغتصب النساء , ويمليء السجون والمعنقلات ويهدر كرامة الأنسان , فيصرخ السلطان لدينا دستور وحرية وديمقراطية ودولتنا قطعة من الجنان , فتتقافز أمامه الشيوخ تنادي هيبة أنت وصدر ديوان , ونفديك بأرواحنا وأجسادنا وأموالنا أيها السلطان , وعندما يجد الجد ويتعرض الوطن للنهب والسلب من وزراء السلطان , وتستباح أرض السلطان وتنتهك عرض السلطان ويتصاعد الدخان , لا نجد منهم واحدآ يفتدي السلطان , فتذهب ريحهم سدى وتحتل جيوش الغوغاء وطن السلطان وتستبيح عرضه وأرضه وشعبه , وترسل السلطان ليجلس وحيدآ بين الجدران , يموت السلطان ويحى سلطان , فتفرح الموساد ويضحك الأميركان , والله ينصر السلطان .