18 ديسمبر، 2024 12:04 م

خارطة علي الأديب للخروج من معضلة العراق/ وداوِني بالتي كانت هي الداءُ

خارطة علي الأديب للخروج من معضلة العراق/ وداوِني بالتي كانت هي الداءُ

لا أستطيع أن أقرأ خارطة طريق الأستاذ علي الأديب لمعضلة العراق دون أن أعلِّق عليها، على الرغم من أنني ابتعدت عن الكتابة في الشأن السياسيّ مؤخَّراً، بسبب ظروفٍ لا أجد من المناسب الإستفاضة في شرح أسبابها الآن، فلا بأس إذن من مناقشة عددٍ من النقاط التي وردت في هذه الخارطة، التي ربما حظيت بعض فقراتها بموافقة الغالبية العظمى من العراقيين، لكنَّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في هذه الموافقة على التنظيرات السياسية للأستاذ الأديب، بقدر ما تكمن في الإعتراض المبدئيّ على أن يكون الأستاذ الأديب على وجه التحديد هو من يقوم بهذا التنظير، مما يشكِّل في رأيي مفارقةً كبيرةً لا يمكن غضُّ الطرف عنها إلا بمزيدٍ من العناء النفسيّ الذي قد لا يكون في طاقة عددٍ كبيرٍ من الناس بطبيعة الحال.
سأحاول في هذه المقالة أن أتعرَّض لمناقشة خارطة الأديب السياسية التي اعتقد الأخير أنها تمثل حلاً لمعضلة العراق ضمن العناوين الآتية:
1- الصراع في مرحلة ما بعد البعث.
ليس حديثاً مبتكراً بالمرَّة ذلك الحديث الذي بات ممجوجاً في الوسط السياسيّ برمَّته، والذي مفاده وسم كلِّ ثقافة ممانعةٍ للكثير من مناطق الخلل في العملية السياسية الجارية في العراق بأنها تمثل امتداداً لثقافة البعث، سواءٌ بطريقةٍ شعوريةٍ أم لا شعورية، فقد أرهقنا أنصاف السياسيين وأرباعهم، بل أصفارهم أيضاً بهذه التحليلات المستعجلة التي تقفز على النظرة الموضوعية للواقع السياسيّ العراقيّ في مرحلة ما بعد الإحتلال، إذ لا يمكن التسليم مطلقاً للأديب ولا غيره بهذه النتيجة، وإلا لأمكننا حشر عددٍ كبيرٍ من الذين قارعوا نظام البعث أيام لم يكن الأديب معروفاً للشعب العراقيّ بصفته معارضاً، وإن كان معروفاً للنخبة القيادية في حزب الدعوة بصفته كذلك، في تلك الخانة التي يحشر فيها الأديب الذين يمثلون امتداداً لثقافة البعث والدكتاتورية، من أمثال السيد مقتدى الصدر، أو السيد أحمد الحسنيّ، أو الشيخ الخالصيّ، أو حتى السيد السيستانيّ الذي امتنع عن استقبال أيِّ مسؤولٍ في الحكومة، ولم يستثنِ المالكيّ والنجيفيّ والأديب نفسه من هذا القرار، لأنه اتخذ موقفاً احتجاجياً واضحاً ضدَّ الحكومة، معلناً تضامنه مع مطالب المتظاهرين الذين وجَّه إليهم المالكيّ رصاص القمع والدكتاتورية في بغداد وسائر محافظات العراق.
2- الحرب الأهلية نتيجة عدم وجود رمزٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ يوحِّد العراقيين على مشروعٍ سياسيٍّ واحدٍ يضمن تحقيق المصالح العليا للجميع.
يتحدَّث الأديب عن النتيجة التي تمخَّض عنها المشروع السياسيّ الخاطئ الذي يعتبر الأديب أحد صناعه بصفتها العلَّة الأساسية في وجود الإنتكاسات الكارثية العديدة التي منيت بها العملية السياسية في العراق، فلم يبرز الوجودان الشيعيّ والسنيّ بوصفهما وجودين متصارعين إلا بسبب تلك الخطوات غير المدروسة التي نبعت من الرؤية السياسية القاصرة في أذهان السياسيين الذين قادوا العملية السياسية في العراق في مرحلة ما بعد البعث، فلقد بدا المشكل متجذِّراً مع تأسيس مجلس الحكم الذي تألَّف من الشخصيات التي برزت على ساحة العمل السياسيّ بعد ذلك ((الجعفري، علاوي، المالكي))، وقد برهن الواقع على أنَّ أحداً من هؤلاء الثلاثة لم يكن حاملاً لخاصِّيةٍ واحدةٍ من الخصائص التي تطبع الشخصيات الوطنية الكارزمية العديدة التي ظهرت في بلدانٍ شابهت ظروفها ظروف العراق في مرحلة ما بعد البعث ووقوعه تحت سلطة الإحتلال، ولو صادف أن ارتقى إلى سدَّة الحكم شخصٌ بهذه الصفة لاستطاع أن يبلور معالم مشروعٍ وطنيٍّ موحَّدٍ للعراقيين جميعاً من الشيعة والسنة على السواء، ولاستطاع أيضاً أن يحرج المشروع الكرديّ الذي يعتبر هو المنتفع الوحيد من التناقضات العديدة التي حكمت العملية السياسية في العراق، ومن الصراعات السياسية القائمة بين الشيعة والسنة سواءٌ في الشارع العراقيّ أم في أروقة السياسة العراقية، لكنَّ مثل هذا الشخص لم يوجد مع الأسف، فكان طبيعياً أن تحدث كلُّ هذه المشكلات والمطبّات التي سقطت السياسة العراقية ضحيتها في مختلف المراحل.
3- مسؤولية نقل المجتمع إلى فضاءاتٍ سياسيةٍ أوسع لا تتمُّ على يد صنّاع الفضاء الأضيق.
يبدو تساؤل الأديب غريباً بعض الشيء عن الجهة السياسية المسؤولة في المرحلة القادمة عن ((نقل المجتمع إلى فضاءاتٍ جديدةٍ تكفل له التفكير في بناء ذاته وتحديد هويةٍ تجمع بين كلِّ أبنائه)) على حدِّ صياغة الأديب، فإنَّ باطن هذا النصّ يشير إلى اعتقاد الأديب بأنَّ هذه الجهة هي حزب الدعوة على وجه التحديد، حتى لو أشار إلى ضرورة ((غضِّ النظر عمَّن يكون على رأس السلطة))، فإنَّ من يعرف الأديب من خلال حواراته الداخلية البعيدة عن واجهات الإعلام، يدرك جيداً ما عليه هذا الرجل من انغلاقٍ إيديولوجيٍّ وسياسيّ، لا يقتصر فيه على إقصاء السنة كما يتصوَّر البعض، بل إنه يعبِّر عن رغبةٍ معلنةٍ أو ضمنيةٍ في إقصاء الجهات السياسية الشيعية خارج نطاق حزب الدعوة كذلك، وربما كان الأديب راغباً بالإنفتاح على جهةٍ سياسيةٍ واحدةٍ خارج نطاق هذا الحزب، وهي الجهة التي تمثِّل الأكراد على وجه التحديد، وهذه واحدةٌ من النقاط التي يسمو بها المالكيّ على قرينه الأديب في الحقيقة، فلو تركت للأديب مثلاً مسألة حلِّ المشكل السياسيّ المتعلِّق بمصير كركوك، لما تردَّد لحظةً في إلحاقها بإقليم كردستان بقليلٍ من التفاوض، أما المالكيّ فلا يقدم على مثل هذه الخطوة أبداً، وقد أثبت ذلك من خلال الكثير من مفاصل الخلاف والتفاوض بينه وبين الأكراد في الفترة السابقة.
مع ذلك، فإنَّ الرجلين لا يختلفان في اعتقادهما معاً أنَّ حزب الدعوة فقط هو صاحب الجدارة بلا منازعٍ في قيادة العملية السياسية الجارية في العراق، من دون أن يعتقدا بوجود مثل هذه الجدارة في شركائهم من القوى السياسية الشيعية الأخرى، ومن بابٍ أولى القول بأنهما لا يعتقدان بوجود هذه الجدارة في أية قوَّةٍ سياسيةٍ أخرى خارج هذا النطاق.
لا يبدو تساؤل الأديب منطقياً أيضاً عن ((ما هو القانون الذي نريده حاكماً على الجميع وفاعلاً في كلِّ المراحل؟. وبمعنىً آخر ما هي فلسفة الدولة التي تقرُّ بها وتتبناها جميع الأطياف والقوى السياسية، وتناصرها كلُّ الفعاليات الإجتماعية ومنظمات المجتمع المدنيّ…إلخ))، ذلك أنَّ الأديب لا يؤمن بوجود فلسفةٍ للدولة بإمكانها أن تجمع عليها كلَّ الأطياف والقوى السياسية، لأنها تنطلق من نقطةٍ لا بدَّ أن يحصل حولها الإختلاف بشكلٍ طبيعيّ، وهل يمكن لأيِّ طيفٍ عراقيّ، أو لأية جهةٍ سياسيةٍ أن تشارك الأديب أو المالكيّ اعتقادهما الآنف بأرجحية حزب الدعوة وفكره السياسيّ على سائر القوى جميعاً، إنَّ من يتحدَّث عن رغبته في تأسيس فلسفةٍ تصلح أن تكون قاعدةً للعمل المشترك بين جميع الأطياف والقوى السياسية عليه أوَّلاً أن يبرهن من خلال الممارسة والأفعال وليس من خلال الأقوال والكلام الإنشائيّ بطبيعة الحال، أنه متَّجهٌ صوب تلك الغاية المنشودة، لا سيما إذا أتيحت له الفرصة فعلاً لقيادة البلاد، وبرهن من خلال تصرُّفاته كلِّها أنه في غاية الأنانية والفئوية الحزبية، حتى أنه قام بتفريغ الشكل الديمقراطيّ للدولة من محتواه الحقيقيّ، فتصرَّف بمقدَّرات الدولة ومؤسساتها كما لو أنها ملكٌ خاصٌّ للأشخاص الذين ينتمون إلى حزب الدعوة، أو الذين يتعاطفون معه، أو الذين يساندونه في أقلِّ تقدير، ولنا في تجربة الأديب نفسه من خلال منصبه التنفيذيّ الحاليّ أبرز شاهدٍ على ما ندَّعيه، فلقد بات معلوماً للجميع أنَّ الدرجات الوظيفية في الجامعات العراقية، لا سيما في مدن الوسط والجنوب، إنما هي حكرٌ على من ينتمي إلى حزب الدعوة أو يؤيده، ناهيك عن مسألة تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات، حتى باتت أروقة التعليم العالي مؤمَّمةً بشكلٍ كاملٍ تقريباً لأتباع هذا الحزب ومؤيديه، بل إنَّ مسألة الولاء لحزب الدعوة في الجامعات العراقية الآن لا يضرُّ معها كون أحد هؤلاء من المنتمين إلى حزب البعث سابقاً، فالمهمّ أن يكون البعثيّ ذا ولاءٍ حقيقيٍّ لحزب الدعوة وللأديب بشكلٍ خاصٍّ حتى تتوفَّر له الضمانة في أن يكون ذا منصبٍ ونفوذٍ في الجامعات العراقية الآن.
كما إنَّ المالكيّ، وهو ذو التجربة السياسية المعبِّرة عن الفكر السياسيّ لحزب الدعوة حالياً، هو الذي اتبع مبدأ الولاء لشخصه وللحزب في إسناد المسؤوليات الإدارية في مختلف مؤسسات الدولة العراقية لعددٍ كبيرٍ من غير ذوي الأهلية الإدارية من الأشخاص، بل إنه اقتطع جزءاً هامّاً من الميزانية المالية العامَّة للبلاد لإنفاقها على مجالس الإسناد، وليست هي سوى مؤسساتٍ داعمةٍ لحزب رئيس الوزراء وليس للدولة العراقية بالمعنى العامّ.
4- تناقض الأديب في الدعوة إلى الإنفتاح على ثقافة المعارضة.
لا يبدو الأديب منتبهاً إلى الإشكالات التي تثيرها دعوته هذه، إذ يفغر القارئ فاه متعجباً من مثل هذا التصريح، فأين هو الإنفتاح الذي مارسه القياديّ الأوَّل في حزب الدعوة ((المالكيّ)) على ثقافة المعارضين، وهل تمثل هذا الإنفتاح في الدعوة القضائية التي رفعها ضدَّ موقع ((كتابات)) قبل عامين من الآن مثلاً مطالباً رئيس تحرير هذا الموقع بتعويضٍ ماليٍّ مقداره مليار دينار عراقيٍّ فكانت مطالبته هذه نكتة الموسم بالفعل، أم أنه تمثل في عددٍ كبيرٍ من الدعاوى القضائية التي أقامها ضدَّ كتابٍ بسطاء في هذا الموقع، مستغلاً سلطته كرئيسٍ للوزراء للتأثير على القضاء، وبساطة هؤلاء الكتاب وتجرُّدهم من مقوِّمات السلطة، أم أنَّ هذا الإنفتاح تمثل بشكلٍ أكبر في عمليات الإعتقال المتواصلة للكتاب في مختلف محافظات العراق أثناء المظاهرات الإحتجاجية للمطالبة بتحسين الخدمات، أم لعلَّ هذا الإنفتاح على كلِّ تشكيلات المعارضة تجسَّد بشكلٍ حقيقيٍّ في إطلاق النار العشوائيّ على المتظاهرين في ساحة التحرير وفي مختلف المواقع التي شهدت انطلاق هذه المظاهرات، ولمراتٍ عديدةٍ عكست إصرار الحكومة على مواصلة النهج القمعيّ الدكتاتوريّ البعثيّ بأعنف أشكاله.
بماذا يجيب الأستاذ علي الأديب لو سئل الآن سؤالاً عما يمكن أن تتصرَّف بموجبه وزارة الثقافة مثلاً لو أنَّ شاعراً أو روائياً قدَّم نتاجه الأدبيّ إلى دار الشؤون الثقافية من أجل طباعته، فهل توافق هذه الدار على نشره إذا ما كان يحتوي مضموناً معارضاً لحكومة المالكيّ، أو كان يتعرَّض إلى السياسة الإقصائية التي يمارسها الأستاذ الأديب في وزارة التعليم العالي حالياً، لا شكَّ أنَّ الإجابة معروفةٌ ما لم يلجأ الأستاذ الأديب إلى الأساليب الإلتفافية في الردِّ على مثل هذا السؤال.
5- الأديب وفلسفة الدولة.
في مستهلِّ الفقرة التي حملت عنوان ((الخطوط العامة لفلسفة الدولة)) قال الأديب: إنَّ “واقع الوضع السياسيّ في العراق يشير إلى أنَّ العمل بدون خارطة طريقٍ واضحة المعالم لا يمكن أن يحقق أيَّ تقدُّم، وإنما هي أيامٌ نقضيها كأفرادٍ وأحزابٍ وكتلٍ وفئاتٍ، نحسب فيها ما حققناه من أهدافٍ ومكاسب آنيةٍ لأنفسنا وللمقرَّبين منا ولفئتنا التي ننتمي لها دون الإلتفات إلى ضرورة وضع فلسفةٍ واضحةٍ للدولة نصل من خلالها إلى الهدف الوطنيّ الذي ضاع بين المصالح الآنية، وحجبته الأهداف الفئوية، وحالت دون الوصول إليه المصالح الفردية”، فعلى الرغم من أنَّ معنى الجملة غير تامٍّ كما واضح، إلا أنَّ المغزى الذي أراده الأديب معروفٌ، لذلك سنتغاضى عن هشاشة الأسلوب الذي كتب به الأديب مقالته على وجه الإجمال، بما في ذلك الأخطاء النحوية الكارثية التي لا ينبغي لرجلٍ يحتلُّ منصب وزيرٍ للتعليم العالي والبحث العلميّ أن يرتكبها، حتى لو اضطرَّه الأمر إلى تكليف أحد مرؤوسيه من ذوي الخبرة اللغوية بتصويبها قبل نشرها، لكننا سنتغاضى عن ذلك كما قلنا، فليست المسألة هي هذه من جهة تقدير الأهمية، بقدر ما تتمثل الأهمية في محاكمة الأفكار العامَّة التي تضمَّنتها مقالة الأديب، لذلك فإنني أستغرب من أنَّ الأديب يوجِّه إلى الآخرين نقده للمصالح الآنية والفئوية الحزبية… إلخ، وهو القياديّ المرموق في حزب الدعوة الذي يقود العملية السياسية الآن، فمن شرع بتحقيق هذه المصالح الآنية والشخصية والفئوية إلا الأديب والمالكيّ وسائر القياديين في هذا الحزب العزيز على قلوبنا -سابقاً بالطبع-، فإذا فرضنا أنَّ هناك فئاتٍ حزبيةً أو غيرها تريد أن تحقِّق هذه المصالح عبر وسائل غير مشروعةٍ بكلِّ تأكيد، فأين منها المالكيّ، وهو يتسنَّم أعلى منصبٍ في الدولة العراقية، أم أنه هو الذي منح عجلة الفساد الدفعة الأولى قبل سنواتٍ لكي يضمن استمراره في الحكم، فأحرى بالأديب إذن أن يوجِّه نقده إلى المالكيّ وسائر قياديي حزب الدعوة، بل أحرى به أن يوجِّه هذا النقد إلى نفسه أصلاً، وهو الذي يدير شؤون التعليم العالي في العراق الآن بعيداً عن كلِّ مظاهر المهنية، ليجعل من الجامعات العراقية امتداداً طبيعياً لمجالس الإسناد كما هو واضح.
6- علي الأديب ومفهوم المواطنة.
عجيب أمر هذا الرجل، إنه يتحدَّث عن أمورٍ تشكِّل مطالب أساسيةً لمعارضيه، فلو كان الأديب يجسِّدها فعلاً فعلى أيِّ شيءٍ ينتقده معارضوه، أم أنَّ المسألة لا تعدو رفع الشعارات واستهلاكها ثمَّ الإنقلاب عليها على يد أصحاب الشعار أنفسهم، فإذا كان الأمر كذلك فلا تعتبر الجهود المبذولة في الردِّ على الأديب إلا جهداً ضائعاً على هذا الأساس.
أية مواطنةٍ هذه التي يريدها الأديب أساساً للثقافة وهو يؤمِّم الجامعات العراقية لأنصار حزب الدعوة فقط، ولا يستقبل الآخرين فيها إلا بوصفهم طارئين عليها لا أكثر ولا أقلّ، وهل هناك وزارةٌ تعمل بالمحسوبية الحزبية أكثر من وزارة التعليم العالي حالياً، وكذلك الشأن في جميع الوزارات التي يقودها رفاقه من قياديي الحزب، بل إنَّ المالكيّ نفسه هو من وضع الحجر الأساس لهذا المسلك أوَّل الأمر، ثمَّ سار على نهجه الآخرون.
7- العقلية الأرستقراطية الرأسمالية للأديب.
في منطقٍ عجيبٍ يقوم الأديب بالمساواة بين النزعة الإشتراكية التي يجب أن تسم السياسة الإقتصادية في بلدٍ منهكٍ مثل العراق وبين البعث، لا لشيءٍ إلا لأنَّ البعث كان يلحق هذه الصفة باسمه، من دون أن يلتفت إلى أنَّ الحزب الإشتراكيّ كان موجوداً بشكلٍ مستقلٍّ عن البعث، ثمَّ جرى توحيده بحزب البعث في مرحلةٍ لاحقة، هذا أوَّلاً، أما ثانياً، فحتى لو كانت هذه الصفة لحزب البعث أصالةً، فإنه لا يلزم من ذلك نبذ النزعة الإشتراكية بالمطلق واستبدالها بنقيضها المتمثل بالنزعة الرأسماليَّة البغيضة، وإلا للزم أن نتخلى مثلاً عن عبارة ((الله أكبر)) المكتوبة على العلم العراقيّ، بحجَّة أنَّ الطاغية المقبور هو الذي قام بكتابتها على العلم، فإذا أصبح مثل هذا المبدأ جارياً، ترتَّبت على ذلك نتائج كارثية ربما تبدأ بهدم كلِّ المنشآت الحيوية التي قام البعثيون ببنائها وتدمير كافَّة الطرقات التي شقّوها وعبَّدوها، وقد ينتهي الأمر بتهجير كافَّة الأشخاص الذين اقترن ميلادهم بوجود البعث، وهذا ما لا يوافق عليه عاقلٌ بطبيعة الحال.
المهمّ أن تتحمَّل الدولة مسؤوليتها في إدارة المرافق الهامَّة في الدولة والإنفاق عليها، وليس مهمّاً أن يكون اسم هذا الإجراء اشتراكياً أو غيره، لكنَّ الأديب يرفض هذا المنطق من الأساس، أي إنه يدعو إلى تبني النظام الرأسماليّ القائم على اقتصاد السوق، تشجيعاً للمبادرة الشخصية كما يقول، وتحقيقاً لبراءة الحكومة من مسؤولياتها التي يجب أن تقوم بها في نهاية الأمر، وإلا فبأيِّ حقٍّ تستلم الحكومة عائدات النفط أصلاً، وعلى أيِّ أساسٍ تستند شرعيتها في التصرُّف القانونيّ بثروة العراق.
إنَّ فلسفة الدولة التي يعدنا الأديب بأنَّ تطبيقها والسير على هداها يخرجنا من المعضلة هو هذا الإجراء الذي يعفي الحكومة من أيِّ التزامٍ سوى قيامها بالمهمَّة الأمنية، ولتكن الثروة العراقية جميعها ثمناً للقيام بهذه المهمَّة، لكي يزداد السياسيون ثراءً على ثراءٍ والملايين الغفيرة من أبناء الشعب العراقيّ المسكين فقراً على فقرٍ في مقابل ذلك.
8- الدعوة إلى تبني مبدأ الأغلبية السياسية في تشكيل الحكومة.
إنَّ من النقاط التي أتفق مع الأديب حولها هي هذه النقطة التي يدعو من خلالها إلى “العمل بنظام الديمقراطية القائمة على أساس حكم الأغلبية السياسية، (نقول الأغلبية السياسية، لا المذهبية ولا العرقية، التي ألجأت البعض إلى الأخذ والإصرار على العمل بالديمقراطية التوافقية) لكي يتاح للأغلبية السياسية التي تصل إلى السلطة عبر صناديق الإنتخابات تطبيق برنامجها كاملاً دون أيِّ تقاطعاتٍ كبيرةٍ أو صغيرةٍ تبدر من الشركاء المفترضين، والذين هم في الواقع يعيقون التطبيق نتيجةً للصراع السياسيّ الكبير والخشية على ضياع الهويات الأصغر والمحافظة على مصالح الجهات التي يمثلونها” فنحن نوافق على مثل هذا التنظير شريطة الإحتفاظ بحقِّ المعارضة في حال الإستئثار اللاشرعيّ الذي تقوم به الأغلبية السياسية ذاتها ولو من باب الإحتمال، إذ ليس هناك من ضمانةٍ في هذا المجال على أن لا تقدم الحكومة المشكَّلة من الأغلبية السياسية بنهب الثروات والإستئثار بالمال العام خاصةً إذا كانت حكومة الأغلبية من بين الأحزاب الموجودة في العملية السياسية ذاتها، إذ فشل أغلبها في مجال الإختبار خلال الفترة السابقة.
الخلاصة
تمتاز الخارطة التي قام الأديب بكتابتها لتكون سبيلاً لخلاص العراق من معضلته على حدِّ تعبيره، بأنها لا تستحقُّ الوصف الذي حملته على الإطلاق، نظراً لما يأتي:
أ‌- إنَّ صاحب المشروع نفسه هو أحد الأركان الأساسية التي يتكوَّن منها المعضل العراقيّ، فلا يصلح أن يكون ذا رؤيةٍ صائبةٍ في مجال اقتراح خارطةٍ للخروج من المعضلة على هذا الأساس.
ب‌- إنَّ صاحب المشروع يرتكب عدداً من التناقضات التي تجعل المشروع برمَّته متهافتاً، فإنَّ جملة ما كتبه لا يخرج عن كونه شعاراتٍ تتعرَّض للخرق باستمرار على يد الأديب وسائر قياديي حزب الدعوة وعلى رأسهم السيد المالكيّ بالطبع.
ت‌- إنَّ صاحب المشروع لا يضع يده على الأسِّ الحقيقيّ للمشكل العراقيّ الذي تعاني منه العملية السياسية في العراق، إذ نحن بحاجةٍ إلى شخصيةٍ كارزميةٍ استثنائيةٍ تستلم قيادة العراق على أساسٍ ديمقراطيٍّ طبعاً، يوحِّد الشعب العراقيّ باتجاه أهدافٍ وطنيةٍ مشتركةٍ عليا، من دون أن يعرِّض الخصوصيات الدينية والمذهبية والقومية للخطر.
ث‌- إنَّ بعض ما يقترحه صاحب المشروع وجيهٌ حقّاً، مثل الدعوة إلى العمل بديمقراطية الأغلبية السياسية بدلاً من الديمقراطية التوافقية، لكنَّ الأديب يرتكب تناقضاً لأنه هو من دعاة الديمقراطية التوافقية من قبل، كما إنه سيعود للمطالبة بها في حال أنَّ حزبه لم يصبح حليفاً لتكتُّلٍ سياسيٍّ يستطيع أن يشكِّل حكومة الأغلبية السياسية في المستقبل، وسيخرج علينا بخارطةٍ جديدةٍ تؤيد الديمقراطية التوافقية آنذاك.