18 ديسمبر، 2024 9:52 ص

خارطة العراق بعد…” داعش”!!

خارطة العراق بعد…” داعش”!!

نظام “الملل” الذي حل محل نظام “اهل الذمة” يعده المهتمون بتاريخ الاقليات  والاثنيات والطوائف في التاريخ العربي، هو البوابة التي دخلت من خلالها المشاريع الطائفية الى الجسد العربي، فبعد ان كانت الامبراطورية العثمانية مُتبنية، والى ما قبل افول نجمها نظام اهل الذمة. الذي يمثل مجموعة من الحقوق والواجبات لرعايا الامبراطورية من غير المسلمين ضمن اطار دولة الباب العالي، ويعد مظهراً من مظاهر الدولة المدنية آنذاك ، جاء نظام الملل بفعل المتغيرات الدولية وضعف الامبراطورية العثمانية ، ليمثل اشبه ما يكون حكم ذاتي للطوائف والاثنيات والاقليات داخل اطار الدولة الواحدة، ماهيئ الارضية لزراعة الطائفية.
لذا لم تواجه المشاريع الاستعمارية صعوبة كبيرة لتمزيق اللحمة المجتمعية العربية، بعد اقتسام تركة العثمانيين من مستعمرات عربية لصالح دول الحلفاء ابان هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الاولى1914 ـ 1918، فشعار” فرق تسد” لم ينجح دون وجود الارض الخصبة التي نًمت بذرة الطائفية المتمثل بنظام الملل. المتناغم مع اعلان الرئيس الامريكي نيلسون :”حق الشعوب في تقرير مصيرها”!.
منذ ذلك الحين انقسمت  النخب العربية سواء المسلمة ام المسيحية  بين ولاءين الولاء الوطني القومي والولاء الديني المذهبي.
العرب السنة
العرب السنة الذين حكموا العراق ما يقارب “80 ” سنة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العشرينات من القرن المنصرم، ولغاية احتلاله من قبل الولايات المتحدة الامريكية  عام (2003 )،(رغم تمثيلهم “19 %” من حجم سكانه الذي يمثل منهُ الأكراد 18 % والشيعة 61 % والباقي مجموعة الاقليات المعروفة، بفعل السياسة البريطانية في دعم الاقليات لضمان استمرار نفوذها، بسبب حاجة الاقليات الدائمة للاستقواء بالدول الاستعمارية لإدامة سلطتها في الحكم )!.
رفضوا المعادلة الديمقراطية التي صاحبة رياح تغيير النظام ،لأنهم اكتشفوا مبكراً طبيعة مخرجاتها التي ترتكز على مبدأ اغلبية الاصوات، وتلك خصلة تفقدهم امتياز السلطة التي تنعموا بها على مدى عقود برغم انهم اقلية.
ظلت عيون نخبهم  شاخصة الى عواصم متفرقة لإعادة عقارب الساعة الى الوراء، على الرغم من اصرار العرب الشيعة (اكثر المتضررين من سلطتهم لثمانين سنة ونيف يليهم الاكراد!) على اشراكهم في السلطة، حتى وصل الامر الى اعطائهم مناصب حسب حجمهم السكاني دون ان يشاركوا بالعملية الانتخابية التي جرت عام (2005 ).
هذا الامر ولد صراعاً بين النخب العربية السنية دار بين المراهنين على المشاريع الوافدة العربية والاقليمية والغربية، وهؤلاء يمثلون الطبقة المتنفذة من زعامات عشائرية وقيادات سياسية بسبب طبيعة علاقاتهم “الاخطبوطية” المتجذرة مع عواصم المؤامرة على هذا الوطن، وهم يجيدون فن السطو على الوطن على حساب الوطنية ،وتيار آخر يؤمن بالوحدة والتعايش السلمي مع الشريك الآخر بالوطن ،يحاول ان يوقف سيل المؤامرة التي تريد ان تمزق الجسد العراقي بذرائع مختلفة (التهميش والاقصاء والمظلومية ….وهلم جره) ،وسط بيئة ذات طبيعة تحكمها الاعراف والقبلية يمثل فيها رئيس العشيرة القداسة التي تُكفر من يحاول المساس بها، لا يكون للنخب المثقفة والوطنية فيها دور او رأي، وعادة ما يطيعون ويتبعون تلك الزعامات القبلية ،التي لا تمثل الا نفسها ومصالحها ،وبذلك تكون القيادة عمودية وليست افقية، وهنا تكون عملية شراء ذمم فردية تؤدي الى احراف بوصلة جمعية.
وهذا ما حصل على مدى سنوات التغيير وسًبب استمرار نزيف الدم العراقي، فتيار المراهنين على تغيير المعادلة من الخارج لم يستسلموا للرهان الوطني ،رغم فشلهم في تمزيق الوطن طيلة سنوات التغيير المنصرمة  ،فطرحوا ثلاث خيارات تعجيزية  تتعارض مع خيار العراقيين الديمقراطي وحقوق الانسان والعدالة الانتقالية)!. هي (بديلاً للمالكي ـ المادة اربعة ارهاب ـ عفو عام) والّا الاستعانة ب “داعش” ثم التفاوض . هذه الخيارات التي وجدت لها صدى بين الطيف الشعبي السني لأول وهلة، نتيجة لبعض اخطاء حكومة السيد المالكي سرعان ما تحولت الى كوارث انسانية بمجرد اعطاء الضوء الاخضر لـ “جرذان داعش” باستباحة  مدينة الموصل، ومن ثم التمدد على ثلث مساحة العراق!، ارتكبت خلالها جرائم مروعة وابادة انسانية وتفاخرت بتنفيذها اكبر عملية سبي للنساء منذ بدايات الاسلام (حيث تم سبي مئات النساء من ابناء شعبنا الايزيدي، وبيعهن في سوق النخاسة تحت مرآي ومسمع وتواطئ المجتمع الدولي).
جرائم داعش المروعة اعادة الوعي الى الرأي العربي السني بعدما فقدته بسبب طموح السلطة، فكانت داعش “الضارة النافعة” التي وحدت هدف العراقيين ،وعرفتهم عدوهم الحقيقي، ولينقلب السحر على الساحر وتهفت اصوات المؤامرة وتبرز الاصوات الوطنية السنية المنادية بوحدة العراق ارضاً وشعباً مع تربص المتآمرين وعدم استسلام اصحاب نظرية الاستقواء بالخارج .
العرب الشيعة
العرب الشيعة الذين دفعتهم المعادلة السياسية بعد تغيير النظام الى سدة السلطة كونهم اكثرية ليس رغبة وطموح في الحكم ، لكن للحفاظ على هويتهم وحقوقهم ودفع الظلم الذي لحق بهم على مدى ثمانون سنة .كان حالهم كحال” ام الولد” التي تريد ارضاء الجميع على حساب نفسها ،فهم البقرة الحلوب التي تنتج ما يزيد من 80 % من خيرات العراق، ورغم ذلك هم من يدافعون ويقدمون دماء خيرة ابنائهم للحفاظ على وحدة العراق!.
وهم من طرحوا الفدرالية مبكراً لتجنب الحساسيات وترسبات مرحلة نظام البعث الذي اعتاش على  ترسيخ الطبقية والكراهية والطائفية على مدى اربعة عقود.
الفدرالية التي تتكون من ثلاث محافظات ليس شرطاً فيها العرق او الطائفة بل مبنية على المصالح المشتركة.
وهم المطيعون لرأي المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف بزعامة الامام السستاني . المًصرة على وحدة العراق ارضاً وشعباً، برغم حجم القتل والدمار الذي لحق بهم طيلة سنوات التغيير ولحد اللحظة. نتيجة فتاوى التكفير الصادرة من المؤسسة الدينية في المملكة السعودية  التي لم ترعى حرمة لكبير او صغير او مقدس.
اصرار الشيعة على وحدة العراق، ليس ضعفاً فهم يملكون الموارد المادية والبشرية، فضلاً عن المنافذ البحرية بسبب طبيعة تواجدهم الجغرافي، بل هو شعور بالمسئولية تجاه وطن عرف موحداً، وهم يخشون ان يُقرن تقسيمه في زمن سلطتهم.
استنتاج
مشروع “بايدن” سيء الصيت الذي طرحه قبل سنوات ، بدأت خيوط ملامحه تتضح وتفرض بقوة ،بعد ان رفضه العراقيون جميعاً آنذاك, فبوابة “مظلومية السنة” التي تحدث بها “اوباما” اشبه بشعار “نيلسون” السالف الذكر “حق الشعوب في تقرير مصيرها” فما اشبه اليوم بالبارحة!.
الولايات المتحدة الامريكية رصدت مؤخراً (645 ) مليار$  لمقاتلة داعش من ضمنها عشرات المليارات لتشكيل جيش عراقي جديد لا أحد يعرف ماهيته ومهامه!.
الرأي العام العربي الشيعي والمتوافقون معهم من العرب السنة في فكرة الوطن الواحد والهدف المشترك ينظرون بعين الريبة الى مثل هذه الارقام التي رصدها البنتاغون لمقاتلة عصابة تفتقد الى المشروع وبدأت تفقد اصدقائها وحواضنها على الارض، ويشمون منها رائحة مشروع  الاقليم السني الذي رشحت قبل سنوات خارطته التي تفوق مساحة العراق مرتين ويملك ميزانية توازي الميزانية العراقية. تطبيقا ًلنظرية اسرائيل “انتقام الجغرافيا”!، فضلاً عن عدم وضوح  موقف السياسيين  السنة وبعض شيوخ القبائل  من جرائم  تنظيم داعش، وترحيبهم بفكرة الحرس الوطني الخاص بالمناطق الذي تقف خلفه امريكا بذريعة “حفظ التوازن “.
هذه العوامل تحرج المرجعية الدينية  والقوى السياسية الشيعية  التي تؤمن بالشراكة والعيش المشترك، وبعراق واحد امام جمهورها ،بسبب اصرار اصحاب نظرية المؤامرة على تنفيذ مشروع بايدن مع غياب تام لدور الرأي العام العربي السني، وعدم الوقوف بوجه اصحاب تلك النظرية ، وهذا ما يجعلنا قاب قوسين من تقسيم العراق الى ثلاثة اقاليم (الاقليم الكردي ـ الاقليم الشيعي ـ الاقليم السني ).
فلمن ستكون الغلبة لفكرة الوطن الواحد ام لعراقات متعددة؟!.
 هذا ما سيحدده موقف الرأي العام العربي السني ،بعد ان قدم العرب الشيعة دماء خيرة ابنائهم للحفاظ على خارطة الوطن الواحد.