عشتُ سنوات طويلة في العمل السياسي والفكري والإعلامي، وكنت شاهدًا وفاعلًا في أخطر مراحل ما بعد 2003. وقد رأيت الدولة تتشكل، ثم تتشقق، ثم تُخترق.
كتبت وانتقدت وحاورت، لكنني لم أتوقف عن طرح السؤال الجوهري: كيف يمكن للعراق أن يتحول من دولة شكلية إلى دولة فعلية؟
لقد اختبرتُ النوايا، وعرفتُ عن قرب أولئك الذين رفعوا شعار الدولة، بينما يمارسون نقيضها، وأدركت أن البناء لا يكون بالشعارات، بل بخيارات حاسمة تعالج جذر الأزمة لا أعراضها.
وبينما يمكننا أن نعدّد مئات إن لم يكن آلاف المشاكل التي يعاني منها العراق، من الاقتصاد إلى الفساد إلى الخدمات إلى الانهيار التعليمي والصحي وإلى كل تفصيلة في حياة العراقيين، تبقى هناك مشكلة واحدة إن لم تُحلّ، فلن يكون هناك معنى لأي إصلاح:
السلاح المنفلت وتعدد مراكز القوة خارج إطار الدولة.
المشكلة كما هي… لا كما تُجمَّل
ليس السلاح المنفلت مجرد وجود بندقية بيد عشيرة، ولا حتى مجاميع صغيرة تمارس الابتزاز. بل هو ظاهرة متجذرة تشكلها:
ميليشيات وفصائل عقائدية لها ارتباطات خارجية،
قوى سياسية مسلحة تفرض إرادتها في الانتخابات،
جماعات تابعة لأحزاب تتقاسم النفوذ في المدن والمنافذ والوزارات،
وجود بيشمركة تابعة لحكومة الإقليم لا تخضع لسلطة القيادة العامة للقوات المسلحة، بل تعمل كقوى متعددة شبه مستقلة رغم أنها تموّل من موازنة الدولة.
ومع هذا التعدد، لم يعد هناك جيش واحد، ولا قرار سيادي موحد، بل أصبحنا إزاء فسيفساء قوى مسلحة، تشرعن بعضها تحت عناوين المقاومة أو حماية الطائفة أو الدفاع عن الإقليم.
من أين نبدأ؟ وما الطريق؟
إن أول خطوة في العلاج هي أن نسمي الأشياء بأسمائها.
نحن أمام مشكلة تهدد جوهر الدولة، ولا يمكن الالتفاف حولها بشعارات الدمج أو الهيكلة أو “توحيد الجهود الأمنية”.
ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن الحل الأمني الصِرف، أي المواجهة المسلحة، ليس الخيار الأول، لأنه قد يفتح على العراق أبواب صراع داخلي.
كما أننا لا نريد أن نعطي الحجة للتدخل الدولي المدمر كما حصل في لبنان واليمن..
ولذلك، نطرح هنا خارطة طريق، مدروسة ومتدرجة، تنطلق من مبدأ الحوار، لكنها لا تنتهي بالتنازلات، بل تبني دولة ذات سيادة وهيبة.
أولًا: حوار بلا وهم… مع من؟ وبأي شروط؟
كلمة “الحوار” أصبحت مستهلكة في الخطاب السياسي، ولذلك يجب أن نوضح بدقة ما نعنيه.
أطراف الحوار هم خمسة :
1. الحكومة المركزية بصفتها الطرف الشرعي المفترض أن يحتكر السلاح.
2. الفصائل المسلحة غير الرسمية، سواء كانت شيعية أو سنية، والتي تمتلك أجنحة عسكرية.
3. البيشمركة كمؤسسة عسكرية غير خاضعة لسلطة بغداد رغم تمويلها من الخزينة العامة.
4. المجتمع الدولي كضامن للتسويات ومنسق للمرحلة الانتقالية.
5. المجتمع المدني وقياداته كمراقب شعبي.
شروط الحوار:
لا يُفتح الحوار مع أي طرف يرفض مبدأ “احتكار الدولة للسلاح”.
يُمنح المشاركون مهلة زمنية محددة ( ثلاثة أشهر مثلًا) لتقديم خارطة التزام واضحة: هل سيحلون تنظيمهم؟ هل سيندمجون؟ أم يرفضون؟
من يرفض، يوضع على لائحة الجماعات الخارجة عن القانون، وتُجرى مواجهة قانونية أو أمنية معه.
ثانيًا: صياغة قانون شامل
لا تكفي القوانين العامة، بل نحن بحاجة إلى قانون خاص يتضمن:
تعريفًا دقيقًا للفصائل الخارجة عن القانون.
عقوبات صارمة على حمل السلاح أو الانتماء لمجموعة مسلحة خارج إطار الدولة.
آليات اندماج قانونية لمن يريد التحول إلى حزب سياسي مدني.
ثالثًا: إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية
لا يمكن القضاء على الميليشيات دون أن نقدم بديلًا وطنيًا قويًا.
نقترح:
دمج جزئي للفصائل المنضبطة ضمن وزارتي الدفاع والداخلية تحت إشراف دقيق.
إخضاع قوات البيشمركة لقيادة الأركان العامة العراقية، مع ضمان حقوقهم ضمن المؤسسة.
تشكيل قوة نخبوية خاصة، تابعة مباشرة للقائد العام، لتنفيذ إجراءات نزع السلاح وحماية مراكز الدولة.
رابعًا: تأمين الغطاء السياسي والاجتماعي
من دون دعم المرجعية، والشعب، والقوى المدنية، فإن أي خطة ستفشل. لذا يجب إطلاق حملة وطنية تشرح للناس:
لماذا السلاح المنفلت والمليشيات ومظاهر اللادولة هم العدو الأول لحياتهم اليومية.
كيف يؤثر على الاقتصاد، والتعليم، والأمن، والانتخابات.
ولماذا باتت الدولة بلا هيبة.
خامسًا: الاتفاق على نهاية واضحة للمرحلة الانتقالية
يجب أن نحدد هدفًا زمنيًا واضحًا، لا يتجاوز 12 شهرًا، تكون فيه الدولة قد:
نزعت السلاح من كل القوى غير الرسمية.
أعادت هيكلة المؤسسة الأمنية.
نظمت الانتخابات في ظل قانون جديد وقوى غير مسلحة.
نعم، العراق يعاني من مشاكل كثيرة.
لكن إذا أردنا البدء، فلنبدأ من الرأس لا من الذيل.
فلنبدأ من المشكلة الكبرى التي ولّدت كل الفوضى: غياب الدولة أمام سلاح غير شرعي، وخطاب عقائدي يختطف الشرعية، ومليشيات تهدد كل إصلاح.
وخذوها مني:
لا يمكن لأي مشروع وطني أن ينجح،
ولا لأي زعيم أن يحكم،
ولا لأي دولة أن تُبنى…
ما لم يُسحب السلاح من الجميع، ويُعاد وضع العراق تحت سيادة القانون لا سطوة السلاح.