23 ديسمبر، 2024 1:27 ص

خارطة الشعوب العراقية

خارطة الشعوب العراقية

مسلسل الفواجع العراقية مستمر. التغيير يكاد أن يكون حبرا على ورق بعد أن بدأت مرحلة التسويف والوعود العصية على التحقيق. قد لا يتعلق الأمر برئيس مجلس الوزراء السيد حيدر العبادي قدر تعلقه بحيتان الفساد الموزعين على خارطة النفوذ العراقي، وتراجع أسعار النفط العالمي أصبح الشماعة التي تعلق عليها الأخطاء ومسلسلات النهب المستمرة، وتحاصر المواطن العراقي بدءا من المرتبات التي لم يحصل عليها بعض موظفي الدولة منذ أربعة أشهر، مرورا باستمرار تردي الخدمات على كافة المستويات، وليس انتهاء بكرة القدم التي شهدت تأجيل استضافة العراق لخليجي 23، وللسنة الرابعة على التوالي.

حركة الاصلاح لا يمكن لها ان تستقيم دون مصالحة داخلية حقيقية. والمصالحة لا يمكن لها ان تكون في ظل سياسيين مهمتهم الرئيسة وضع العصي في دواليب الحكومة من أجل كسب النقاط على حساب الآخر الذي هو خصم إن لم يكن عدوا. الكتل السياسية منشغلة بصراعاتها الداخلية وصراعاتها البينية. والأهداف الموضوعة على طاولة أي من الكتل هي تحقيق مكاسب شخصية وفئوية ضيقة على حساب قضايا العراق والعراقيين.

وإذا كانت بعض القوى السياسية تعيد انتاج خلافاتها وفق ثنائية الحفاظ على امتيازاتها “الحكومية” مع إدعاء لعب دور المعارضة مع الحكومات المتعاقبة، فإن القوى السياسية الكردية، ورغم حصولها على امتيازات لم تكن تخطر على بالها في الأحلام، فإنها عازمة على تنفيذ خطة الانفصال بعد قضم محافظة كركوك الغنية بالنفط وبعض مناطق سهل نينوى، فور استرجاعها من بين براثن تنظيم داعش، الأمر الذي يثير سؤالا بمنتهى الخطورة والأهمية: ماذا في اليوم الثاني للانتصار على داعش؟

أنا شخصيا مع حق الأخوة الكرد في تقرير مصيرهم، وهو حق تكفله القوانين الدولية، كما يكفله الدستور العراقي الذي فصل على مقاسهم، كما يقول بول بريمر في كتابه “عامي في العراق”، لكن هذا الحق لا يمنحهم حقا مضافا يتعلق بمصادرة حق القوميات العراقية الأخرى من عرب وتركمان وشبك في الحفاظ على بلدهم موحدا، يحلون فيه خلافاتهم تحت خيمة ذات الدستور. وهنا لابد من المرور على لغة السياسيين الكرد حول وحدة العراق أرضا وشعبا والتي بدأت تتعرض للتشكيك، تمهيدا للتقسيم، في مجمل الخطاب السياسي الكردي.

رئيس إقليم كردستان العراق السيد مسعود بارزاني ثارت ثائرته لأن مؤتمر لندن لمكافحة الإرهاب لم يوجه اليه دعوة للحضور، واكتفى بحضور رئيس مجلس الوزراء السيد حيدر العبادي على افتراض أنه يمثل كافة أطياف الشعب العراقي. يقول بارزاني في بيان الغضب من منظمي المؤتمر “يحزننا أن تكون الشهادة والتضحية من نصيب شعب كردستان ويكون الاعتبار لأناس آخرين”، معتبرا أن “القوة الرئيسية والمؤثرة التي تواجه وبشكل مباشر الإرهاب العالمي على أرض الواقع هي قوات بيشمركة كردستان”، مؤكدا أن “الثقل الرئيسي يقع على شعب كردستان، ولا يحق لأي كان أن يمثله لإيصال صوته في المؤتمرات والمنتديات الدولية”. الغريب في الأمر أن البيان يأتي بعد أيام قلائل من دفع حكومة المركز لرواتب البيشمركة على اعتبار أنها جزء من المنظومة العسكرية العراقية، والأغرب من ذلك أن أي من المسؤولين، برلمانيين ورؤساء أحزاب وحكومة مركزية، لم يطالب باعتذار السيد بارزاني عن بيانه الذي يشكل إهانة للقوات المسلحة العراقية وقوات الحشد الشعبي ولشخص السيد رئيس مجلس الوزراء.

كما لابد من المرور على تصريحات السيد نيجرفان بارزاني حول ان العراق قبل العاشر من حزيران، وهو تاريخ اجتياح تنظيم داعش لمدينة الموصل، هو غير عراق ما بعد هذا التاريخ، وان المادة 140 من الدستور المتعلقة بالاستفتاء حول كركوك قد انتهت ولا ضرورة لها، في إشارة الى أن المحافظة أصبحت جزءا من أراضي الإقليم، ويجب التوقف عند بعض التوصيفات المستخدمة حديثا في الخطاب السياسي الكردي، وأهمها وأخطرها توصيف “الشعوب العراقية.”

صحيح أن أول استخدام لهذا التوصيف جاء على لسان كاتب كردي بعيد التغيير الذي حصل في نيسان 2003 بأسابيع قليلة، لكنه لم يترسخ في أدبيات السياسة العراقية ولم يتكرر استخدامه إلا بعد حوالي عشر سنوات حيث كتب قاض كردي عن ان “الدستور العراقي أجاز للشعوب العراقية أن تقوم بفض عقد شراكتها الاختيارية الحرة إذا لم يتم الالتزام ببنود هذا العقد المتمثل بالدستور” متعكزا على ديباجة الدستور، متناسيا أن هذه الديباجة تنص على “الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعبا – لاحظ شعبا وليس شعوبا – وأرضا وسيادة”. غير أن استخدام هذا التوصيف من قبل رئيس حكومة الإقليم السيد نيجرفان بارزاني يعد سابقة خطيرة تهدد وحدة العراق وتذكر بانفصال جنوب السودان عن السودان الأم، وما جره من ويلات على البلاد، وخصوصا في المنطقة المنفصلة التي تعاني الاقتتال على السلطة بين قوات رئيس جنوب السودان سلفا كير وقوات المتمردين التي يقودها رياك مشار الداخلي رغم الاتفاقات المتعددة التي عقدت بين الطرفين.

لم يطلق هذا التوصيف على شعوب متعددة الأعراق والأصول كالشعب الأمريكي او الشعب الكندي او الشعب الاسترالي، كما ان ترسيخه في القاموس السياسي العراقي سينسحب على الإقليم حتى في مرحلة ما بعد الانفصال إذ سيطلق توصيف “الشعوب” الكردية المتكونة من الكرمانجي والكلهود والكوران واللور. فهل ستتعظ القيادات الكردية وتبقي على الجسور التي تربطهم بأشقائهم العرب والتركمان والشبك قائمة، لأن هؤلاء الإخوة سيشكلون عمقهم الاستراتيجي حتى إذا ما تم انفصالهم “رضائيا” عن العراق؟.

[email protected]