تنعطف من ثانوية الحريري، فتدلف شارعها، المورق، مثل كل شوارع وساحات الوزيرية، بأشجار الشبوي والرازق ، والرارانج، يتدلى خارج الحيطان الناصية،فوّاح ولامع.
كان بيت لميعة عباس عمارة، معروفا في الحي، الهادي،الأكثر زحاما بالحمام والعصافير،هربا، من صخب الاعظمية والكاظمية، المدينتين المكتظتين بالقاطنين وبالزوار.
عاشت لميعة عباس عمارة المولودة في الكريمات، أحد أقدم أحياء بغداد التاريخية ، على مسافة مرمى حجر من السفارة البريطانية، ثم انتقلت مع اسرتها، بعد الزواج الى الوزيرية، جوار ثانوية الحريري.
درّست اللغة العربية،فتخرج مِن بين ظفائرها أجيال من البنات المتعلمات، وذاع صيت ” ست لميعة” بين البغداديين ، ليس بفعل شعرها السلس، والدارميات ، بل لحضورها الاجتماعي، في المناسبات، حين كانت بغداد، لم تفارق بعد، تقاليد النوادي، والقبوليات، ومجالس الادباء والشعراء.
لمعت الشاعرة، في المجتمع المخملي، وأضفت لهجتها الجنوبية الناعمة، على السيدة، الانيقة، بعينين واسعتين، في نظراتها قدر من التحدي، يصل الى حد الوقاحة المحببة ، خصوصية على صاحبة القد الممشوق ،وصارت مصيدة للقلوب الملتاعة، وعشاق الجمال .
كان بدر شاكر السياب، واحدا ممن حطم قلبه حب لميعة المستحيل، وخلافا لقريبها عبد الرزاق عبد الواحد، الذي عرف عنه انه لا يفوت جميلة تمر من أمامه، فإنه، قطعا افتتن بابنة عمته؛ لكن عبد الواحد الناشط السياسي،شعرا وتنظيما، كان واقعيا، خلافًا للسياب الذي طلق الحزب الشيوعي، بالثلاث، وأنقلب على قيادته ومسيرته، ودبج في ليالي المرض المؤلمة في الكويت؛ عشرات المقالات لاقيمة أدبية لها، باستثناء انها تعكس موقفه الغاضب والحاقد في أحيان كثيرة على رفاقه السابقين.
ولا ندري، كم كان تباين موقف السياب، مع موقف لميعة عباس عمارة من الحزب الشيوعي،ترك اثره على الحب المستحيل بين زميلة الدراسة السابقة، وربما الرفيقة في الحزب،لكن الواضح ان الشيوعيين، لم يكونوا يحسبون لميعة، في حساباتهم الحزبية، بعد ان ابتعدت في شعرها وكتاباتها عن تلك الشعارات المدوية، ولاحت منسجمة مع حقبة حكم الرئيس الراحل أحمد حسن البكر، ويقال انها وأسرتها كانت على علاقة ود مع أسرته .
بل ويشاع انها غادرت العراق، مع زوجها المهندس، واولادها، نحو بيروت، بعد تنحي البكر، وكأنها استشعرت خطرا على استقرار أسرتها الصغيرة.
كانت لميعة عباس عمارة، سنوات الأمل التي لم تستمر طويلا، أواسط سبعينيات القرن الماضي، محط إهتمام البرامج الاذاعية، والنوادي الثقافية، والمناسبات الفنية.
وكنا في مجلة” الاذاعة والتلفزيون” التي نافست مجلة ” الف باء” على السبق والريادة، نعد ملفات من ثلاث أو اربع صفحات، تتضمن سيرة حياة المشاهير في الحياة الثقافية العراقية.
وغالبا ما سببت هذه الملفات، وجع راس،ومشاكل لرئيس تحرير المجلة الشاعر الغنائي، الفذ زهير الدجيلي، الصحفي والكاتب الموهوب الذي كان صاحب اقتراح، إعداد تلك الملفات.
فغالبية الاسماء المعروفة، التي تمثل ضيفا ثمين الذكريات و المواقف، لم يكونوا على موجة واحدة مع النظام.
وفي تلك الحالة، يسهر زهير الدجيلي الليل ، يفتش عن ما وراء السطور، ويخط بالحبر الاخضر خطوطا حمراء!
ويتناقش في المضمون، حتى
“لا توگع على راسنا طرگاعة”.
وفي الوقت ذاته كان يحرص على جمالية النص، و أمانة النقل، وعلى روح ما يتحدث به الضيوف.
وتلك كانت مهمة شاقة، أعتقد ان سهيل سامي نادر، كان عونا لزهير الدجيلي في تجاوز أسلاكها الشائكة.
على المقلب الاخر،برزت مشاكل من نوع خاص مع ملفات المجلة، لا تمت للسياسة بصلة، بل لاعتبارات شخصية .
فالملفات كانت تخصص مساحة كبيرة، للشخصيات الإذاعية والتلفزيونية، للمغنين والمغنيات، الممثلات والممثلين، وغالبا ما يتم إختيار ضيف العدد، بمناسبة عمل مبّرز ، أو الحصول على جائزة.
وربما بتدخل مباشر من إدارة المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، وتحديدا من مديرها العام محمد سعيد الصحاف المشرف العام على المجلة.
ويصادف ان الصور المعدة للنشر، لا تعجب المدير او الضيف، وحصرا من الجنس اللطيف، وعندها ،،،
جيب ليل وخذ عتابة !
يتنقل زهير الدجيلي مثل المكوك، بين مكتب الصحاف، ومبنى المجلة الملاصق للسفارة الايرانبة في الصالحية سابقا، ويهرع نحو المطبعة في شارع الشيخ عمر او مطابع دار الجماهير.
ومرة، تم تغيير الغلاف لاكثر من بروفل ، لان ممثلة، لم يعجبها، أنفها الطويل كما في الحقيقة، مع ان المصور، مهدي صالح، أقسم بانه حرص على تصغيره، وأطلق شريط شتائم مولولا ” شسويلها اذا كان خشمها أطول من ..”
ومرة أيضا ، سحبت المجلة هدية العدد، بسبب اعتراض بعضهن لدى المدير العام، وكان تقويم العام الجديد، هدية العدد، مع صور ممثلات ومذيعات لأن بعضهن، لم يجدن الصور أجمل من الواقع!!
وثالثة، تسربت صورة لمقدمة برنامج ” السينما والناس” الشهير اعتقال الطائي، قبل توزيع هدية العدد، فاعترضت على الوانها الفاقعة، وظلت أكداس الصور، مركونة في سطح مبنى المجلة تحت الشمس، شهورا، لكنها كانت تنقص تدريجيا، حتى أكتشفنا ان الزميل حسين الحسيني، المتيم من طرف واحد باعتقال الطائي، كان يحمل في حقيبته على دفعات صور قاتلته حبا،الى بيته، فلن يقبل العاشق ان تكتوي الحبيبة على السطوح؛ بشمس بغداد الحارقة!
وهكذا حزمنا أمرنا ، وتوجهت مع
المصور مهدي صالح، الذي كان يرتجف من رؤية شرطي في الشارع، نحو الوزيرية، ولم نجد صعوبة في العثور على سكن لميعة عباس عمارة. اذ كان البيت بشهرة ثانوية الحريري.
“في حديقتنا تين ونارنج، وهواية رازقي”!
هتفت لميعة، ما ان دخلنا صالة الضيوف. وراحت تتحدث بغنج عن عنايتها بحديقة الفيلا الصغيرة، وعن مكان ولادتها في الحي البغدادي القديم، وسردت لنا محطات من ذكريات الصبا ، وتحاشت، كما نحن، الخوض في تقييمات أدبية او شعرية لمجايليها.
بيد إنها تحدثت بحب، وشغف عن السياب، وقامت نحو مكتبة صغيرة في الصالة، وجاءت برسالة، فتحتها بعناية خوفا من ان تتمزق وقالت:
” الى الان اني دايخه، هاي رسالة معنونة باسمي من بدر وصلتني قبل أسبوع” واردفت مقهقهة
” لا لا مو من القبر” معلقة على دهشة المصور مهدي صالح، الذي لم يتمالك نفسه؛ وقفز لانتزاع الورقة من يدها، فصدته ضاحكة
” صبرك علي راح اخليكم تصوروها وتنشروها”.
لم اعد اتذكر لا مضمون ولا حروف او أسطر الرسالة التي نشرناها على الغلاف عنوانًا؛؛؛
(لميعة عباس عمارة: وصلتني من بدر شاكر السياب رسالة قبل اسبوع!)
بعد هذه السنوات الطويلة، لم أعد اتذكر كيف فسرت لميعة، الوصول المتاخر للرسالة اللغز،بعد عقد على وفاة الشاعر المكتوي بعشها، هل بالبريد وخدماته المتعثرة في العراق، أم مع ساع كان التقى السياب، قبل رحيله المفجع في الكويت أو قبل ذلك.
لعل هواة جمع الصحف والمجلات القديمة، في العراق، يحتفظون بعدد المجلة، ولربما تكون اسرة الراحلة ،تتذكر تلك الحكاية.
وكم في حياة لميعة عباس عمارة على مدى تسعة عقود من حكايا، وحكايات.
سلام مسافر
الصور
مع مريم السناطي محبوبة الصحفيين في بيت الرسام خالد الجادر نعد ملفا للمجلة .
اعتقال الطائي معشوقة الملايين، معدة ومقدمة برنامج” السينما والناس” مع زميلها فراس في اكاديمية الفنون الجميلة.