إن مفهوم الأخلاق الذي يتبناه السيد محمد الصدر(قدس سره) إنعكس على شخصيته في كل أبعادها وكل مستوياتها بما فيها مستوى التفكير والسلوك ولو حاولنا إستقصاء البُعد الأخلاقي بمفهومه الذي حدده السيد محمد الصدر(قدس سره) فهذا الأمر يتطلب جهداً جهيداً..
وسأحاول تسليط الضوء على بعض التجليات الفكرية والعملية..
والآن فلنسمع أو نقرأ ما كتبه السيد محمد الصدر(قدس سره) في مقدمة كتابه العظيم فقه الأخلاق ما نصه:
((المستوى الاول: إن الفقه يمثل الشريعة, والشريعة تمثل العدل الإلهي إذن فالفقه يمثل العدل الإلهي وبتعبير آخر: إن التعاليم الفقهيه إنما شُرّعت لأجل إيجاد النظام العادل على الفرد والمجتمع, لا طبقاً لشهوة أحد, وإنما طبقاً للعدل الإلهي الذي إقتضى الأمر ببعض الأمور والنهي عن البعض الآخر, فكان أن وجد الفقه بمظهره المعروف ومن الواضح عند أهل الفن: إن (العدل) جزء من (الاخلاق), لأن القضية الرئيسية والكبرى في هذا العلم هو إدراك حُسن العدل وقُبح الظلم ومعه, فسيكون الفقه كله ناشئا من منشأ أخلاقي, وهو العدل. مضافاً الى إنطباق هذا المفهوم على كل مسألة من مسائله, وكل تطبيق من تطبيقاته بحيث يكون كل حكم فيه هو عادلاً, للعدالة الإلهية التي أقتضته. وهذا أحد الأساليب لفهم ما قلناه من الأخلاق تشمل كل مسائل الفقه وليس بعضها.
المستوى الثاني: إننا إن فهمنا من الأخلاق التربية العُليا والسلوك الأمثل, في مقابل ما للعامة من تكاليف, أمكننا القول بأن التكاليف العامة في الفقه هي الواجبات والمحرمات, والتكاليف المعمّقة هي المستحبات والمكروهات, وهي التي تربي الفرد في خطوة أعلى من مجرد الإلتزام بما هو إلزامي في الشريعة, فتكون المستحبات والمكروهات الفقهية هي أحكام أخلاقية بطبيعتها.
ومن المعلوم أن هذا الجانب, أعني المستحبات والمكروهات, تستوعب أغلب الفقه من الناحية العملية سواء بالنسبة الى الأخبار الواردة فيها, أو الكتب المؤلفة والسلوك الذي تقتضيه وهذا المستوى يبرهن على أن أكثر أحكام الفقه هي أحكام أخلاقية.
المستوى الثالث: إن المستوى الأخلاقي المعمّق يبدأ من الصفر, أو المستوى الضحل للفرد, ثم يصعد به تدريجياً الى الكمال, فماذا سوف يكون المطلوب من الفرد الإعتيادي, إذا أراد أن يسير في هذا الطريق لأول مرة؟
هناك عدة أجوبة على ذلك, إلا أن أصحها حقيقة, وأقربها الى الفهم العام للكتاب والسنة هو إن الخطوة الرئيسية والأهم في هذا الصدد, هو الإلتزام بالشريعة الظاهرية أو التعاليم الفقهية, حتى ما إذا حصل ذلك بالإخلاص, كان الفرد مستحقاً للخطوة الثانية في طريق الكمال.
إذن, فالفقه مقدمة للمستوى الأخلاقي المتكامل ومقدمة الشيء ليس غريبة عنه, بل هي منه بالحقيقة, إذ مع تغاير الجانبين وتباينهما, يتعذر أو يستحيل حصوله مثل هذه المقدمية.
المستوى الرابع: إننا في أول هذا البحث عرفنا الفقه بأنه علم التشريع, وعرفنا الأخلاق بإنها علم السلوك, فهل يمكن أن يكون بين التشريع والسلوك تباين وتغاير؟ طبعاً لا, فإن التشريع إنما وجد لأجل السلوك على طبقه, أو قل بأن التشريع العادل أُوجد لأجل إيجاد السلوك الصالح. كما إن السلوك إنما ينشأ طبقاً بتشريعات مسبقة يدركها السالك.
إذن فلو قصدنا من السلوك: السلوك الأخلاقي الظاهري أو العام, وهو حُسن معاملة الآخرين ونحوها, فهو من صميم الفقه, ولا يحتاج الجزم بذلك إلا الى إلقاء نظرة على التعاليم الفقهية.
وإن قصدنا من السلوك: السلوك الأخلاقي المعمّق, وهو أيضا ناشيء طبعا عن تعاليم, بإعتبار أن من الأفضل إتخاذ هذا السلوك دون ذلك, على إختلاف حاجات السالك وحالاته وأهدافه, وهذه التعاليم أيضا من نوع التشريع أو الفقه, إلا أنها ليست فقهاً عاماً, لأنها مما لايتحمله العامة, بل يخص البعض دون البعض لا محالة.
وهذا معناه أن الفقه ليس فقط مقدمة للأخلاق العُليا, كما قلنا في بعض المستويات السابقة, بل هو يبقى مرافقاً للفرد والسالك في مدارج الكمال, مهما كان مرتفعاً)) انتهى.
يتضح من خلال هذه الكلمات أن الفقه والاخلاق والكمال كلها من مصاديق العدالة.. إذ لا يمكن للإنسان السير نحو الكمال إلا بتطبيق العدالة في كل علاقاته وهذا يعني العقائد والاخلاق والفقه.
إنتهى القسم الثاني ويليه القسم الثالث ان شاء الله …