ما الذي جعل ذاكرتي تعلق ومنذ قرابة النصف قرن وحتى الآن بفكرة مفادها: إنَّ استوديو الأمل لصاحبه الفنان الراحل وذو المواهب المتعددة علي مطر، كان بالأساس محلاً لبيع الملابس
الجاهزة ومايشابهها، غير اني لم أجرؤ على البوح بذلك بسبب عجزي عن دعم هذه المعلومة التي احتكرتها لردح من الزمن، والتي لا يستبعد أن يكون مصدرها ما أملته علي مخيلتي ووهمي وما رافق طفولتي من صور، ستتداخل فيما بينها لتشكل ذاكرة مُضطربة، ربما سأكون بأمس الحاجة لمن يعيد لها صوابها. ولكن وفي ذات الوقت وما أثار دهشتي هو إكتشافي المتأخر ومن خلال بعض ما كُتب من قبل المتابعين لهذا الشأن من أبناء مدينتي، بأن هذا الاستوديو، تعود ملكيته حين تأسيسه للفنان التشكيلي الراحل عزيز الحسك، الذي اختار الغربة طواعية في ذلك الوقت، من أجل تطوير وتحسين مداركه الفنية والمضي بإختصاصه الى مدارات أرحب. وبذلك يكون الاستوديو قد تنقل بين يدين أمينتين، لم يؤد تكامل جهودهما الى تطويره والنهوض به فحسب، بل كذلك ساهم في وضع اللبنات الأولى، الهادفة الى إقامة صرح فني هام، سيقتفي خطاه كلٌ مَنْ له الرغبة في سبر غور هذا الإختصاص فيما بعد، وهذا ما تحقق فعلاً.
ما يهمني هنا وعلى أهميتهما ليس المكان وسيرته، بل بضع صفحات من سيرة عزيز الحسك والتي لاتقتصر على الجانب الفني فحسب وإنما لتمتد وتصل الى بعض من طباعه، فكانت على الشكل الآتي:
شخصية لا غبار على جمالها وقبل ذلك على بساطتها. وللوصول الى تلك السجايا التي يحملها ويمتاز بها طيب الذكر والمناسبة، كان لزاماً عليه إستيعاب وتدارك الكثير من المنعطفات والثنايا التي ترافقت ومسيرته الفنية، أسوة بأخوته الحالمين. وإنسجاماً مع ما فات فقد وجد نفسه امام مواجهة صريحة ومكشوفة مع جملة من الإختبارات الصعبة والتي لامناص ولامندوحة من تجاوزها، فكان له ما أراد. إذن لم يكن من السهل على عزيز بلوغ هذه المنزلة والمرتبة، والتي تعد بحق من النِعَم التي (يُحسدُ ) عليها وتسجل له، والتي كان قد اكتسبها بفعل وتأثيرعوامل عديده، كنا قد أنفنا المرور سريعاً على بعضها، لتجتمع وتتداخل فيما بينها، لتتحول بالتالي الى ركيزة قوية بل الى ايقونة، يستند عليها وينطلق منها في تشكل وعيه الفني والذي سيجد ظلاله وإنعكاساته في تلك اللوحات التي خرجت من بين أنامله، لتترك أثراً بيناً وبالغاً لدى المتلقي، حيث سيكتشف الأخير وفي جانب كبير منها بانه على وئام وتناغم تامين مع تلك الرسوم، وبأن البلوغ الى مداركها وغاياتها لا يحتاج الى كثير عناء. ولعلَّ عزيز في ذلك يكون قد نجح في إيصال ما يريده، وأيضاَ في إستقاء الدرس الأول والأهم من غربته ومن الأهداف التي سعى من أجل تحقيقها.
ومما زاد في جمال شخصيته هي طبيعة العلاقة المتميزة التي جمعته بالآخرين، وعلى وجه أدق مع المحيط الذي يعيشه، فالفن والحياة ووفق ما رآه، خطان متشابكان متعانقان، لا يمكن لأحدهما التخلي أو الإنفصال عن الآخر وتحت أي ظرف. وإذا ما اُختلف عليه في أمر ما فإنَّ ما اُتفقَ عليه أكثر بكثير، بل يمكننا القول أنَّ شخصيته كانت قد جُبلت واستقرت ولدى كل مَنْ التقاه الى مرادف موضوعي للوداعة والطيبة. فبعد ردح من الزمن، قضاها في مغتربه، اختار العودة طواعية أيضاً الى وطنه الأصل والى ما افترضه سيكون الأخير والأبدي، مُستفيداً أو قل تحت ظل جملة قرارات تمَّ إصدارها في حينها، ولأغراض وأهداف، لم تدرَك غاياتها ولا كنهها على نحو كافٍ، فضاع الإعتقاد بين تساؤل مشروع يبحث عن مدى الجدية والرغبة الحقيقية والصادقة في تحسين الحال
وكذلك في بعث رسائل تطمينية الى الفئات والقوى الرافضة للسلطة وجبروتها، وبين أهداف تحمل بين دفتيها وفي وجهها الآخر، السعي من أجل تجميل صورة الحاكم والحكم ليس الاّ، فعاد الى وطنه مَنْ عاد بعد أن صدَّق من صدَّق فوقع القسم الأعظم في الوهم.
ولكن ودون أن يلتفت كثيراً الى تلك الاحتملات والى ما تحمله من تفسيرات، فقد قرَّرَ عزيز مغادرة مرسمه وألوان طيفه هناك في بلاد غربته، تاركاً وراءه أيضاً بضعة عصافير، هي الأخرى ظلت معلقة على جدارية، لم يتبقَ على إكتمال ألقها الاّ بضع لمسات خفيفة، خاطفة، ربما تقصَّد مفارقتها على هذا الشكل، لأغراض واعتبارات لم يبح بها ولم يفصح عنها في حينها . فبعد أن أبدع في رسمها أو قل في صناعتها، ضربه الشك وانتابه الوهم بأنَّ طيور لوحته موشكة على التغريد بُعيد لحظات لشدة تطابقها مع الأصل. ولأن الوقت كان وقت غبش، ولأنه اعتاد على ترك نوافذ بيته مسربلة لتعبث بها الريح كما تشاء، وصادف كذلك أن تداخلت صفقات أجنحة بضعة طيور، اعتادت أن تحطَّ على دكة شبابيكه كي تأخذ قسطاً من الراحة بعد رحلة طويلة من التحليق، ولتأنس أيضاً بصحبته من خلف زجاج النوافذ، فظن عزيز ان عصافير جداريته هي من تصفق، ولكنه خاب ظنه، ولم يتحقق له ما كان يعتقده.
قال في سره وفي علنه: قتلتني اُلفة الوجوه الغريبة أو التي أنا غريب عليها، قتلتني المخيلة التي بدأت اُحسٌ بأرتباكها وفي أضطرابها، حتى أوشكت أن أنسى كيف يُصَفُّ النخيل وكيف تتشابك سعفاته ويمسك بعضه بعضا ، وكيف يتداخل شذى البرتقال والياسمين بعبق النهر المسترخي بين طرفي وكفي مدينتي الوديعة. كيف لي أن أطرب على أغنية من بعيد، لم يتبق منها غير صداها، الذي أوشك هو الآخر على التلاشي والضياع بين المسافتين والبعدين؟. تخيلت (حتى جعلت العطور ترى ويشم إهتزاز الصدى) ، تخيلت حتى ثقلت غربتي عليَّ وليس لي من صديق ينادمني وحشتي أو يقاسمني وجعي. كيف لي النوم هانئاً، مستقراً، مطمئناً على وسادة، قطَّعت صلة الوصل والرحم بالذين هناك، بالمناسبة، لماذا إنقسمنا بين نصف هنا ونصف هناك؟ بل حتى أصبحنا نصفين يتقاتلان، يتناهشان من أجل إثبات أحقية إرث، لفضته لغة العصر وأساب التحضر، ومنذ زمان صار سحيقا.
حين عاد عزيز الى وطنه، قرر أن يعيد رسم خارطة سيره ونزهته من جديد، لتأتي متزامنة، متسقة ونبضات قلبه وتعويضاً عما فاته، فراح وعلى مهل يقيس الزمن الذي فقده والأمكنة التي كان قد إفتقدها وحنَّ اليها أيام غربته، فتراه وقد التجأ الى لعبة، تنسجم وطبيعة شخصيته، لتعيد له كذلك ما كان قد ضاع أو ضيَّعه، لذا اختار ان لا يذهب بعيداً عن مكانه الأول والذي كان قد فارقه آخر مرة، فتجده يعد خطاه ذهاباً وإياباً وبدقة متناهية، بين منزل من البساطة لا يبتعد كثيراً عن سينما النصر، وبين مقهى الشبيبة الذي حوله الى مستقر ينافس فيه مرسمه الذي تركه هناك في بلاد العجمة. وإذا ما ضاق به المكان فسيخضع الى رغبة اُخرى لا تقل جمالا عما كان يجول في خاطره، فتراه ملتحقاً وعند حلول المساء ودون تردد أو كثير عناء بشلة من السمّار والندامى، ستكون وجهتهم حدائق نقابة المعلمين، وصولاً الى إحتساء بضعة أقداح من الراح وأحاديث لا طائل منها، بين قطبين متناقضين، متنافسين، سينسيهم الخمر بعد برهة من الوقت فكرة الحفاظ على التوازن ورجاحة الرأي والعقل.
قال لابأس فكما للغربة شروطها فللعودة شروطها كذلك، وإذا ما استوى وقع الأذى بين الجانبين فسأميل بكفتي نحو وطني فحتى العذاب فيه أجمل. وحين إحتدام النقاش بين جلاسه والذي كثيرا ما يبلغ وفي مرحلة الذروة الى مستوى مقلق من الخلاف، كان عزيز يجانب الضدين معاً، والمسافة التي تفصله عنهما تكاد ان تكون متساوية، فتراه لا يفضَّل الإصطفاف مع هذا أو ذاك، فله في ذلك رأياً طريفاً وسديداً في ذات الوقت، ليكون بذلك قد تعلم واستقى درساً آخر من غربته. فهما أي
طرفي النزاع وكما يرى ويعتقد لا زالا غضَّي العود وكذلك صغار على السياسة، فطريقتهما بإدارة الحوار وطرح الرأي تفتقر الى سماع الآخر المختلف، لذا حرص على تمرير ما يراه مناسباً لتبريد الجو الساخن، فتجده وقد أحضر معه بضعة دعابات، لاتمت بأصل مايدور بصلة، معيداً عليهم قصة المذياع الذي أرجعه الى صاحبه.
أمّا القصة فهذا مدارها:
كان عزيز الحسك مولع بالإستماع الى نشرات الأخبار وبعض البرامج الخاصة المتميزة، ويشعر كذلك بمتعة لاتدانيها متعة حين التفرد بمذياعه والإصغاء اليه وفي صومعته، فتراه منهمكاً بإدارة قرص المذياع بكل الإتجاهات وعلى كل الموجات، الصغيرة منها والطويلة وما بينهما، غير انَّ الحظ لم يحالفه فلم يحظَ بأي خبر يسر قلبه رغم كل الجهد الذي يبذله وما يرافق ذلك من قلق، بل قلْ ان نشرات الأخبار قد تعذر الوصول اليها حتى إختفت تماما من مذياعه. ومع كل وشوشة تصل مسامعه، كان ينتابه الشك بأنه قد أفلح أخيراً في القبض على إحدى الإذاعات المهمة والمحببة اليه، كإن تكون مونتي كارلو أو إذاعة البي بي سي العربية التي تبث من لندن وبرنامجه المفضل قول على قول. غير إنه ورغم جمال صوتهما وعذوبتهما وكلما أدار القرص فلا يستقر الاّ على صوت القارىء الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد وآية التكوير على وجه التحديد، أو على اغنية يا نجمة للمطرب الشاب، الحديث الظهور حسين نعمة، والتي شاع وذاع صيتها وقتذاك. لذلك قرر أخيراً التخلص منه وإعادته الى صاحب المحل مع ست بطاريات من الحجم الكبير، كان عزيز يعتمد عليها في تشغيل مذياعه، حين إبتعاده عن الموصل الكهربائي. وبهذه الدعابة وبهذا الأسلوب يكون صاحب الذكر قد نجح في تطييب النفوس المختلفة وإعادتها الى صفاءها، والى فتح حوارات أكثر راحة، تنسجم وشروط الراح واُماسيه.
أخذ عزيز (لا يحبذ أن ينادى عليه بالأستاذ عزيز) بنصيحة البعض وراح متأبطاً أوراقه ووثائقه وما كان قد إكتسبه من خبرة خلال غربته في فن الرسم، ليتجه صوب العاصمة، بحثاً عن عمل يتناسب وإختصاصه، وإنسجاماً كذلك وتلك القرارات التي تم اصدارها وقتذاك والتي دعت فيها الى عودة أصحاب الكفاءات الى وطنهم، مقابل امتيازات ومغريات، وُعدوا على نيلها والتمتع بها. الاّ إنَّ محنة عزيز الأبدية والتي ظلت ملازمة له اينما حلَّ وارتحل، ليست في التوجه الى هذا المكان أو ذاك، بل في إقتناعه بتخليه عن صندليه أو نعليه، وتبديلهما بحذاء يليق ويتناسب ومراجعة الدوائر الرسمية وإشتراطاتها. وبعد تجاوزه لهذه العقبة أو المحنة كما يحرص أن يُسمِّيها، إقتنع وبدفع وتحريض من أصدقائه على إكتراء إحدى العربات التي تجرها الخيول والتي يفضلها كوسيلة نقل على غيرها، وأيضاً بصحبة بعض الأصدقاء، بهدف توصيله حتى سيارات النقل العامة التي ستقله الى العاصمة.
صبيحة اليوم التالي كان عزيز أول الواصلين الى مقهى الشبيبة المطل على نهر خريسان. فوجئنا بتواجده المبكر فهو عادة ما يقضي صباحاته في مرسمه، يشاغل نفسه بين إعادة النظر بتلك اللوحة وبين نوع الخط الذي سيختاره لواجهة أحد المحلات التي يكون قد أوعدَ صاحبها بإتمامها على وجه السرعة. شكى من إثنين خلال زيارته للعاصمة وأثناء تقديمه لأوراقه الرسمية من أجل الحصول على عمل مناسب له، أولاً من حذائه الذي رافقه بل لازمه، ولفترة زمنية لا تقل عن خمس ساعات متواصلة، كان في بعض الأحيان يتحين الفرص كي يخفف من عقدة الشريطين اللذين كبسا على قدميه حتى أعاقاه عن التنفس على حد قوله. وثانياً من ذلك الوجه الكالح والمسمى بضابط أم الدائرة والذي سيفتح معه تحقيقاً مفصلاً، لا يمت بصلة، لا من قريب ولا من بعيد بطبيعة عمله المفترض، بل وحسب قوله أيضاً فإنَّ الضغط الذي تعرض له من حذائه كان أرحم بكثير من الضغط الذي تعرض له من ذلك الشخص. وكي يُخفف عنه فقد إنبرى أحد الجالسين بالقول: نخشى يا استاذ عزيز، أن يأتي زمان على هذا البلد، يكون ضباطه أكثر عدداً من جنوده
وقادته أكثر من قواعده، ولكن لم يصغِ ولم يلتفت اليه أحد، بل عدّو رأيه من المستحيلات التي لا يستوعبها العقل وضرب من الخيال كذلك.
لم يطل المقام في عمله ليهمس في اُذن أقرب مقربيه: ساُغادر الوظيفة والبلد وعلى وجه السرعة. كان وقع الخبر مفاجئاً على الجميع، وحين استفسر عن السبب ردَّ عزيز: العسكر والفن لا يجتمعان. غير ان التخلي عن دائرته لم يكن بالأمر السهل فلقد إصطدم بتلك الإجراءات الرسمية المعمول بها في البلد، والتي تحد وبشكل صارم من مغادرة الموظف لوظيفته، خاصة وان عزيز الحسك قد عُدَّ من أصحاب الكفاءات، مما ضاعف من حجم الشروط والقيود المفروضة عليه. كذلك إصطدمت فكرة إستقالته من الوظيفة بالأجواء السياسية التي عمَّت البلاد آنذاك، وذلك ما زاد الطين بلة، خاصة بعد أن حامت الشبهات حوله وجرى تحميله وزر أمر لا ناقة له به ولا جمل، فقد تمَّ إلقاء القبض عليه بتهمتي الحب المشهود لوطنه، وبالإرتباط أيضاً بإحدى المنظمات اليسارية التي كان قد فرط عقدها وتناثرت حباته على بقاع الأرض مع نهايات سبعينيات القرن المنصرم، رغم علمهم اليقين بأن لا صلة له بذلك التنظيم.
وبعد جهد جهيد، نجح أخيراً في إقناع مسؤوليه على مغادرة بلده ليجد لوحته التي تركها هناك لازالت معلقة وفي ذات المكان. في هذه اللحظة الحرجة والمصيرية وجد نفسه متردداً، وإنَّ نبضات قلبه هي الأخرى قد إنقسمت الى نصفين، بين أن يكمل لوحته بوضع اللمسات الأخيرة عليها ويستقر في غربته، وبين أن يعود الى وطنه ثانية، غير انه استقر على الخيار الاخير. وبعد عودته ببضع سنوات ومع بدايات عام 2003 تفتحت عيناه على وقع دبابات غريبة، تجوب البلاد طولاً وعرضا، وعلى مخالب أذناب إحتلال تخوض وتغوص في دماء أهله واخوته وأبناء جلدته، ليفضل هذه المرة الرحيل الأبدي عن الدنيا قبل أوان رحيله.
* ولد الفنان التشكيلي عزيز الحسك في بعقوبة النهرين عام 1938 ورحل عن الدنيا في منتصف العقد الأول من عمر الإحتلال.