23 ديسمبر، 2024 4:46 م

حَقيقة الثورات بَين خَيال مُنَظّريها الخَصِب و واقِعها البَشِع

حَقيقة الثورات بَين خَيال مُنَظّريها الخَصِب و واقِعها البَشِع

يُقال إن الثورات تسعى لتَحقيق العَدل والمُساواة وإشاعَة الخَير والسَلام، لكن السُؤال.. كم مِن هذه الثورات نجَحَت في تَحقيق هذه الأمور؟ طَبعاً الجَواب.. ولا واحِدة فَفاقِد الشَيء لا يعُطيه، إذ كيفَ نَنتظِر مِن ثورات يَقودها أناس نفعيّون وصُوليّون مُصابون بالعُصاب وداء العَظَمة كروبسبير وستالين وعبد الناصر وقاسم وعارف والقذافي وكاسترو، ويَخرُج فيها رُعاع يَنعَقون مَع كل ناعق، يُسَيّرهم وَعي جَمعي تقوده أهواء أحزابهم وزعَمائِهم، وثقافتهُم القتل وتقطيع الرُؤوس وتعليق الجُثث وسَحلِها، كيف نتوقع مِن هكذا خليط مَريض مَوبوء بكل أمراض النفس البَشَرية أن يُحَقق هذه القيَم الجَميلة؟؟

إن مَبدأ الثورة كما يَراه روسو أكبر المُنظرين لها يَقوم على التَخلص مِن القوانين وإشاعَة الفوضى لإعادة بناء المُجتمَع  وإستِئصال عاداتِه القديمة، وهي رُؤية لاتزال تجد صَداها لدى كثير مِن مُدّعي الديمُقراطِية، إلا أننا نراها مُضحِكة وساذجة وقبل ذلك بدائية، لأنها تُريد تَحويل الناس لوُحوش وحَيوانات والعَودة بهم للعُصورالحَجَرية كما وصَفَها فيلسوف المَدَنية الرائِع فولتير، الذي كان مُصلِحاً يؤمِن بالتغيير ويُؤيّد الثورة الفِكرية التي تُصلِح المُجتمَع عِبر النُهوض بوَعيه وثقافته وتَهيئته للتغيير سِلمياً، وليسَ الثورة الهَمَجية التي تَسعى لإشاعَة الفوضى واللانِظام عِبر إثارة الرُعاع وتَهييج غرائِزهِم. لقد تطوّرَت البَشَرية خِلال مِئات السِنين لتَصِل للمَدَنية وتُبدِع الحَضارة، كل هذا يُريد روسو ومُؤيدوا نظَرّيَته الفوضَوية في الثورة تجريدَنا مِنه والعَودة بنا لعُصور بدائِية لأنّهم يَرَون أنها الطَريقة ألأسلم والأفضَل لبناء المُجتمَعات، بَدلاً مِن إتباع طُرُق مَدنية دستورية شَرعية مُتحَضِّرة. لذا يَرى الفيلسوف سبينوزا ونرى مَعه أن الثورة تهَوّر وطَيش، قد تحَقق بَعض الفوائِد أحياناً لكن بمُقابل الكثير مِن الأضرار، أبرَزها إشاعَة الفوضى والأضطِراب، وأحياناً إنحِلال النِظام والبناء الإجتِماعي الذي يُشَكل الأساس الصَحيح لكل مُجتمع سَليم.

يقول الفقيه السياسي الفرنسي توكفيل “إن الثورة مِثل الرواية، أصعَب ما فيها نِهايتها”. لذا قد يُرَحِّب الشَعب بنتائِج البُدَع المُباشِرة التي تُحدِثها الثورة، لكن النتائج الغير مُباشرة لايُمكن عَدّها وغالباً ما تتسَبّب بكوارث إجتماعية وسياسية وإقتصادية في كثير مِن الأحيان. لم تكن الثورة ولن تكون يَوماً عِلاجاً حَقيقياً لمَشاكل الشُعوب، ولكونِها حَدَث شاذ خارج عَن المألوف وجسم غَريب على أي مُجتمع سَليم سَوي، فعادة مايَكتنفها اللغط والغُموض، لأن نَجاحَها مُتوقف على مَقدرتها بالتكيّف وإستيعاب ما ثارَت عليه، وغالباً بَل دائماً ما تفشَل بذلك، فما بُنيَ على خَطأ يَنتهي على خَطأ. لذا خَلّفَت الثورات عالماً فاسِداً أسوَء مِن الذي كان قبل حِدوثها، لأنها أوجَدَت نُظُماً جَديدة تحمِل في جَنباتِها بُذور فنائِها ونَبذِها وإنتِهاكِها.

للأسف فأن مُنظَري الثورات والمُحَرّضين عَليها غالباً ما يَجدون صَداً لكلامِهم المُنمّق لدى بُسَطاء الناس وفقرائهم لسُهولة بَعث الامَل بنفوسِهم وتضليلهم بمَعسول الكلام والشِعارات عَن المُساواة والتوزيع العادِل للثروة. لذا ن افولِمَنع حُدوث الثورات يَجب أولاً مُحاربة الفقر والعَوَز، أو بمَعنى آخر مُحاولة تَحقيق المُساواة، فقد أثبَتت تجارُب الشُعوب أنها مُستعِدّة لتحَمّل قيود تفرَض على بَعض الحُرّيات مُقابل توزيع عادِل للثَروة. وفي هذا السِياق يقول فولتير “لا شَيء يَدفَع الإنسان للرَغبة بتغيير الأوضاع السياسية أكثر مِن الجوع، لذا يَكمُن عِلاج الخَلل الإجتماعي بزيادة عَدَد المَلاكين، لآن المُلكية تكسِب الإنسان شَخصيّة وترفَع مِن قدره وكرامَتِه، فروح التمَلك تضاعِف مِن مَعنوية الإنسان وقوّته، ومِن المُؤكد أن مالك الضَيعة أقدَر على تَربية أولادِه مِن الفقير المُعدَم”. وبالتالي فنِظام حُكم يُحارب الفقر ويَكفل العَيش الكريم مَع هامِش مَعقول ومَقبول مِن الحُرية سَيَحظى في الغالب بالتأييد الشَعبي. لذا يفَضّل الخليجيون اليوم أنظِمة حُكم قبلية غير ديمقراطية مَع هامِش مَحدود للحُرّية على سِواها، كما جازَف الفرنسيون والمَصريون والكوبيون والعراقيون والروس بالمُراهَنة على مُساواة وعَدَتهُم بها ثورات الشيوعيين والقوميين التي عَسكرَت مُجتمَعاتهم وحَكمَتها بالحَديد والنار على أنظِمة حُكم وفرت لهم ديمقراطية مقبولة وكانت تَسعى لتُحَقق لهُم المُساواة أيضاً لكن بَعيداً عَن شِعارات الثوريين البَرّاقة، وكانت توَفِّر هامِشاً مَقبولاً وأحياناً كبيراً مِن الحُرّيات باتَ حُلماً صَعب المَنال بَل ومُستحيلاً في زمن روبسبير وستالين وعبد الناصر وكاسترو وقاسم.

هنالِك جانِب سَلبي آخر بدأ يَدخُل على واقِع الثورات، خُصوصاً المُعاصِرة مِنها، ويُزيد طينَها بلة، ألا وهو وقوعَها عُرضة للتأثير الخارجي الذي قد يَتوافَق أو يَختلف مَع التأثير الداخلي المُحَرّض لها، والذي يُشكل أحياناً عامِلا أساسيّا بحَسم نتيجة بَعض الثورات، بَعد أن تَغيّرت أساليب التَحريض عليها والتَهيئة لها بزَمَن العَولمة الذي نَعيشه. فقد تم إقحام التقنية الرَقمية وبَرامِج التواصُل الإجتماعي وإستِغلالها لإخراج الآلاف مِن مَنازلهم، وهو ماشَهدنا تطبيقه العَمَلي مُؤخّراً في ما سُمّيَ بثورات الرَبيع العربي، وها نَحن نلمَسُ اليوم آثاره الكارثية على الدول العَربية، بَعد أن أستُعيضَت أنظِمة عاطِلة كان يُمكن إصلاحُها،بفوضى تتحَكم بها في الخَفاء عَمائم الإسلام السياسي وأصابع المُخابرات الأجنبية عِبر الفيسبوك والتويتر.   

لقد ثبُتَ أن التغيّرات الحادّة وغَير المَدروسة التي تُحدِثها الثورات، غالباً ما تُلحِق الضَرَر بنسيج الدول الاجتماعي وكيانها وهَيبتها ومُؤسّساتها المُختلفة، سَواء أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو عَسكرية، أكثر مِن النَفع الذي كان مَرجوّاً مِنها. لذا كثيراً ما يَتسائل البَعض، لكن في أوقات متأخِرة عَن تكلفة هذه التغييرات، التي رُبّما كان العالم سَيَكون أفضل لو لم تأت في الأساس، وهَل كانَت تَستحِق كل هذه التضحِيات والضَرَر والخَراب، مما يُشير لقُصور واضِح في رُؤية المُتحَمّسين لها،. وهو ما يقودنا الى تساؤل أتمنى أن يُفكر المُثقفون الثوريّون، أو مَن كانوا كذلك في إجابتِه.. أما كانَت أحوال روسيا ومَصر وكوبا والعِراق وفرَنسا واليَمَن لتُصبِح أفضَل لو لم تَحصَل فيها تلك الإضطِرابات التي سُمِّيَت بالثورات، وتُركَت أنظِمَتها الحاكِمة ومُجتمَعاتها لتنصَلِح سِلمياً وتتطَوّر تدريجيّاً وطَبيعيّاً، كبريطانيا والنرويج والمَغرب والأردن والدنمارك وهولندا، دون تغييرات حادّة وطَفرات شاذة شوّهَت مُجتمَعاتها وجائتها بأنظِمة أسوَء ؟؟

رَحِم الله الشاعر علي الشَرقي الذي قال: ياثورة أعقبَتها ندامَة الثوار.. الدارُ أضيَق يامَن أرادوا إقتِسام الدار

[email protected]