يكفي أنه شاعر حقيقي، لذا لا مناص من أن نضفي على سيرته شيء من الخيال، وكان اﻵتي:
ما بين باب المراد وباب الدروازة وأبوابها اﻷخريات، سنوات من العشق وضروب من اللوعة واﻷسى وبينهما أيام وليال لا تخلو من المسرة وإن على خجل. فَلَكَمْ جالها صاحب السيرة في صباه جيئة وذهابا، وَكمْ تخبَّرَ درابينها وناسها، وَكمْ من مرة دخل المقام الذي تحتضنه مدينته الكاظمية وطاف حضرتيها بجلال وخشوع، حتى أختزِنَتْ في ذاكرته لتمسي رصيدا ثمينا،سيهتدي اليه كلما داعبه الهوى وهام في رجعه، واﻷهم أن يكون شفيعه في قادم اﻷيام.
توقف هنا حيث محل بيع الزهور، إستنشق شيء من عطرها فهالته ألوانها ومظهر بائعها الخمسيني الشديد اﻷناقة، حيث إتخذ من الرصيف الملاصق لمحله متاهة للتأمل والراحة، قاطعا بدراية منه أو دونها طريق السابلة، محاولا بعد يأسٍ وتردد وحياء إستعادة ما فاته من عذب الكلام وأرقَّهُ، يوم كان يغازل هذه ويداعب تلك أو يرمي قبلة حتى وإن ضلَّت طريقها. متطلعا بالمقبلة وأكثر منها بالمدبرة: آه كم هو مغرٍ شكل العباءة حين تنتصف غرة النسوة والصبايا.
ذهب بك العمر يا فلان، قالها بحسرة في سرِّه، ساحبا نفسا عميقا من سيكارته التي كادت أن تحرق سبابة يساره والوسطى، ليدخل محله مسرعا بعد أن باغته أحدهم، طالبا منه باقة ورد، زاهية بألوان الطيف، تفوح منها رائحة المسك. أرادها أيضا وهذا اﻷهم أن تليق بمن ستكون قرينة قلبه في غضون شهر من اﻵن، بعد أن حسم أمره، تاركا ورائه إرثا وهمّاً ثقيلين، عدا عن سنوات من الجري والصبر والإنتظار …..حتى حانت الساعة أو قيامها وليستقرَّ القمر أخيرا بين يديه.
لولا إنشغال صاحب محل الزهور بزبون آخر، لكان عاشقنا الولهان قد شكا وكشفَ له سرّه وما لاقاه وما كابده. فَمثلا أمر الإنزواء والتفرد بمعشوقته كان يُعَدَّ ضربا من الخيال والوهم والمستحيل، حتى أوشكا هو وحبيبته على أثرها الفراق سبيلا، غير أنَّ ضربات قلبيهما التي ما إنفكت توجعهما كل يوم بل كل ساعة، هي التي حالت بينهما وبين إتخاذ القرار المرّ. عمّا أحدثك يا صاحب الزهور، عن رهط من اﻷبناء واﻷقرباء وهم يحيطون بنا أينما إخترنا خلوة للتناغم والكلام الحلو ! أم عن لوعة غياب لسبع ليالٍ ونهارات مثلها! أم عن سفر بعيد، باغت حبيبتي مرة وباغتني مرتين.
تأمل طويلا باقة الورد التي باتت بين يديه: أنها حقا تليق بمعشوقتي دون غيرها. قالها بزهو وبصوت مسموع حتى لفت إنتباه بعض المارة. وقال أيضا: لا زال في الوقت متسع، فالساعة اﻵن لم تبلغ بعد الخامسة عصرا ولا بأس من إستراحة قصيرة حتى مجيءصديقي الذي سيرافقني وجهتي. لذا ولتزجية الوقت الفائض قرر حامل الورد التوجه صوب باب القبلة حيث مقهى محمد علي الكاظمي. وفي الطريق الى هناك لاح له من بعيد روادها وكان بها من الكثرة ما ضاقت بهم أرائكها، ولاح له أيضا علي الوردي بحضوره البهي ومسبحته وسدارته الفيصيلية ونظارته الطبية التي زادته مهابة ووقارا.
آه أي مصادفة جميلة هذه وكم تمنيتها، فها هو( الوردي) بجسده الطاهر يمشي تبخترا، لعله يتأمل ما يدور من حوله، أو ربما تجده منهمكا وعلى عادته في وجوه المارة وأزيائهم، ذاهبا الى قراءتها بتأنً وروية رغم شدة الزحام. فهذا مثلا وعلى رأيه قادما على أكثر تقدير وأرجحه من البادية الغربية، فلفحة الشمس بادية على وجهه. وذاك الذي يعتمر عقال سميكا، تبدو عليه ملامح ريف العمارة وطيبة أهلها. أمّا تلك المرأة اﻷربعينية العمر، بطولها اﻷهيف ونحافة خصرها وزيّها المديني، فهي تعود بأصلها إن لم أكن مخطئا الى أرض نينوى، أو ربما تكون من بلاد الشام وقد جاءت لزيارة مَنْ على صلة بها، أو لحضور حفلة عرس ﻷحد اقاربها.
قال حامل الورد محدثاً نفسه: انها فرصة نادرة. ماذا لو أرجأتَ زيارة أهل حبيبتي وأجَّلتَ مرادي بعض الوقت، وأذهب لتحية (الوردي ) وأقاسمه بعض الهموم! لِمَ لا وهو المعروف عنه ببساطته وبشاشته وطيب سريرته، وهذا ما فعلت. فبعد التحية والسلام والتفاعل السريع بينهما راح (الوردي) يشكو بُعد المسافة بين منطقة سكناه في أعظمية أبو حنيفة النعمان، وبين مقهى الكاظمي الذي إعتاد إرتياده عصر كل يوم. وبين أخذ ورد وإذا بالحديث يجرنا بعيدا حتى إستغرق منا وقتا طويلا. وﻷن في كلامه ما يؤنس الجلسة ويمتّعها، فرحتُ هاديا إياه باقة الورد، ناسياً أو متناسياً الإثنين معا،صاحبي الذي كنت أنتظره، وحبيبتي التي تنتظرني.
على أرضية من هذا الإرث والبيئة اﻵنفة وما تخللها من أسباب وظروف جاذبة وحاضنة للجمال والموهبة، تشكلت ذائقته الشعرية. انه سيف الدين ولائي، الكاظمي الولادة، العراقي الهوى، البغدادي اﻷصيل. وعنه نقول: هو سيد اﻷغنية البغدادية أو العراقية إن شئتم يوم زهوها وتألقها، وربما تربَّع على عرشها دون أن ينازعه في ذلك أحد. قد يلومني أو لا يروق للبعض قول كهذا، لكن ما حيلتي فلكل أمرئ مما إجتهد نصيب ونصيبي في رأي هذا لا أظنه عاثرا أو مبالغا فيه.
إذن قدرة ولائي على كتابة الشعر الغنائي وبهذا الزخم والقوة، لم تأتِ بعفو خاطر أو محض صدفة، بل هي حصيلة عوامل عديدة، تظافرت في ما بينها لتنتج لنا هذه الموهبة الكبيرة وهذه القامة. ودون أدنى شك كان قد أصغى وبإمعان لسيرة اﻷغنية العراقية ومنذ بدايات القرن الماضي، بالغا أ`على درجات التفاعل معها في فترة الخمسينات واﻷكثر منها في الستينات حيث تساميها. ومذ تلك الفترة بدأ بالتوقف طويلا عند أشهر قيان بغداد ومطربيها وعلى رأسهم قراء المقام العراقي كمحمد القبانجي وحسن خيوكة، وأصغى كذلك لمنيرة الهوزوز وصديقة الملاية وغيرهم.
لم يكتفِ سيف بما لديه، ولابد والحال كذلك من تدعيم وتطوير ما بين يديه من موهبة وصولا لتحقيق حلمه وغايته. فراح مركزا على قراءة الشعر والقريب منه الى قلبه حصرا، مبتدءاً بديوان الحاج زاير بلهجته العامية الجنوبية المحببة، مارا بالعديد من أطوارها، كالحسجة والزهيري واﻷبوذية. وقرأ أيضا من شعر البادية وما حمله من قيم وأعراف ومبادئ سامية. واﻷهم من ذلك قرأ وبإمعان لملا عبود الكرخي ومنه إستمد وعلى ما أزعم ذلك الكمّ الكبير من المفردات واﻷجواء التي يمكن وضعها في خانة اللهجة الوسطى، والتي تُُعدٌ قاسما مشتركا لكل لهجات أهل العراق.
وبذاك الخزين وذاك الثراء، دخل معترك كتابة اﻷغنية، على الرغم من وجود كتاب كبار في هذا المجال كخزعل مهدي وجبوري النجار. وما إن تجاوز العتبة اﻷولى في مسيرته، حتى تفتحت أمام سيف الدين كل اﻷبواب، وكانت بحق واسعة، رحبة. ولتتراقص من بعدها بين يديه أعذب الكلمات وأكثرها شيوعا وتقبلا وألفة. انه وبإختصار شديد، قد شرب بل قُلْ إحتسى عصارة خزين شعري هائل، بعاميته وفصحاه، بعد أن سقاها بكؤوس من أثير وتأمل.
إذن يمكن القول بأنه إخترق اﻷغنية البغدادية وبكلمات سيطرب لها المتلقي وبصرف النظر عن طبقته وفئته الإجتماعية. فسيف في كتابته وإنتقاء مفرداته كان كما الموحد والجامع بين مختلف اللهجات. وتأكيدا على هذا الرأي ستجد أغانيه حاضرة في كل مناسبة سعيدة ومحفل، فما من عرس عراقي الاّ وتكون أغنية سمر سمر حاضرة، بل هي خير ما يُفتتح به المقام حتى تحولت الى أيقونة خالدة، حُفِرَتْ في ذاكرة العراقيين.
وإذا أردنا أن نحصي عدد اﻷغاني التي كتبها سيف الدين ولائي فهي كثيرة بل كثيرة جدا وربما بلغت اﻷلف. ومن بين تلك اﻷغاني على سبيل المثال والتي لاقت رواجا ملفتاً، أغنية هذا الحلو كاتلني يا عمة وأغنية خالة شكو والله الله من عيونك والردته سويته وادلل عليَّ ادلل وجيرانكم يا أهل الدنيا وغيرها. وإذا نظرنا بعين فاحصة فسنجد كلمات هذه اﻷغاني تدور بجلها حول العائلة والبيت والحنين والعشق وكذلك ألم الفراق.
واللافت للنظر أيضا أن معظم الملحنين المعروفين آنذاك وممن كانت لهم بصمة واضحة في الغناء العراقي واﻷغنية البغدادية على وجه الخصوص، قد تعاملوا وتفاعلوا مع الشاعر سيف الدين ولائي ومنذ بدايات رحلته في هذا الفن وبحماس شديد، لتجد أشعاره وقد طافت سماء بلاده ودخلت أغلب البيوت العراقية، لتغنّى على نغمات من مقام الصبا والحجاز والسيكاه وغيرها. ومن أبرز هؤلاء الملحنين كبيرهم أحمد الخليل وكذلك ناظم نعيم ومحمد نوشي وخزعل مهدي. أما عن أبرز اﻷصوات النسائية التي غنت من كلمات الشاعر طيب الذكر، فستحضر هنا مجموعة ليست بالقليلة من اﻷصوات، وفي مقدمتهم الفنانة مائدة نزهت، كذلك لميعة توفيق وزهور حسين وأحلام وهبي وصبيحة ابراهيم وسليمة مراد. ومن اﻷصوات الرجالية التي تعامل معها شاعرنا، فاضل عواد وفاضل رشيد وياس خضر وعباس البصري والقائمة تطول.
وإذا كان لنا من حديث عن التلحين وأكثر من تعامل معهم شاعرنا ورافق رحلته الفنية، فسيحضر هنا أسم الملحن الكبير الراحل رضا علي. وأكاد اجزم بأن العدد اﻷكبر من أغاني شاعرنا طيب الذكر والمناسبة، كان قد لحنها هذا الفنان، ومن بينها تلك التي لا زالت تتردد على ألسنة العراقيين.
وما دمنا نتحدث عن اﻷغنية وشاعرها، فإنَّ أركانها لا تكتمل الاّ بظلعها الثالث، وأي ظلع هذا إن لم تكن صاحبته فاتنة بغداد عفيفة إسكندر، وليس من فاتنة سواها، إذ كان لها النصيب اﻷكبر والقدح المعلى من أشعار سيف الدين ولائي، ومن ألحان رضا علي.
وﻷن أشعاره تحمل من الرقة والعذوبة ما تفوق الخيال وتطرب لها النفوس وتطيب، فقد عَبَرت أغانيه حدود بلاده لتصل دول المشرق العربي، ولتنافس كبار الكتاب العرب في هذا المجال. وإذا كان لنا من أن نستذكر بعض اﻷسماء من المطربين والمطربات من الذين غنّوا من كلمات شاعرنا، فستكون السيدة نرجس شوقي في مقدمتهم وكذلك الفنانة الكبيرة فائزة أحمد ورائعتها خي لا تسد الباب خي بوجه اﻷحباب واغنية ما يكفي دمع العين يا بويه. وأيضا لا ننسى المطربة راويه ونهاوند وأغنيتها يبا يابا اشلون عيون عندك يابه. من جديد نقول: إنّا نتحدث عن الشاعر الكبير سيف الدين ولائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في إحدى سنوات القحط وإندلاع الحرب التي أكلت وحرقت ولمّا تشبع. في سنة 1980، سيجد سيف الدين ولائي نفسه حائراً بين التيه والدهشة، فالمكان ليس مكانه واﻷهل ليسوا بأهله، ومقهى محمد علي الكاظمي بات بعيدا، بعيدا جداَ. في جوٍّ كهذا، راح شاعرنا يتلفت في كل الإتجاهات عمَّن يدله على (شريعة النواب) وعن البلاّمة ومساءات دجلة الخير، وعن سوق حماده ورفيق مسيرته رضا علي. وعمَّن يدله على إحدى بوابات مدينته التي تركها هناك كي يستجير بها، وعن جهة القلب، عن بغداده، ولكن دون جدوى.
وما أن مشى سيف الدين ولائي بضع خطوات حتى وصل مسامعه ومن إحدى مقاهي السيدة زينب، واحدة من أجمل أغانيه وبصوت راويه: أدير العين ما عندي حبايب…. غريبه الدار بس وين الكَرايب. لم يطل به اﻷمر كثيرا، فقد أعلِنَ عن وفاته بتأريخ 25-11-1984وليُدفن هناك في مقبرة الغرباء، ليكتب على قبره: مات شاعرنا كمدا على وطنه. هل سنجد في بلاده التي تغرَّب منها أو غُرِّبَ، شارعا أو زقاقا أو حديقة ورد تحمل إسمه؟ تضم من الزهور أجملها وأعبقها عطرا، كتلك التي أهداها الى علي الوردي يوم التقاه قبل بضعة عقود.