لعلّ المسألة الأولى التي واجهت العراق منذ الاحتلال عام 2003 هي «احتياجات العدالة» والسبيل للوصول إلى رضا الناس، أفراداً وهيئات، حيث يفترض أن تكون الإجراءات شفّافة وتصل إلى أفراد المجتمع الذين بإمكانهم التعرّف على مساراتها، سواء بالمعلومات أو بالمشورة القانونية، لحلّ المنازعات الجارية والوصول إلى نتائج عادلة ومنصفة.
وقد واجهت العراق طائفة حادة قديمة وجديدة من النزاعات، سواء ارتفاع منسوب النزاعات العائلية وتأثير ذلك في مشكلات السكن والدخل والوضع المعاشي والاقتصادي وعلى الأطفال وتعليمهم وتربيتهم، إضافة إلى نزاعات الملكية وما صاحبها من عمليات تزوير واحتيال، وكذلك مشكلات العمل والخدمة والفصل السياسي والسجناء والمعتقلين وغير ذلك. وقد راجت في سنوات ما بعد الاحتلال منازعات لم يعرفها العراق من قبل، خصوصاً تلك التي تتعلّق بالتطهير الديني أو الطائفي أو الإثني، في العديد من المناطق المختلطة، سواء في العاصمة بغداد أم البصرة أم الموصل أم كركوك أم الحلة أم غيرها.
وإذا كان المحور الأساسي لأي نظام للعدالة هو الإنسان، فإن القضاء هو الأكثر تأهيلاً لحل النزاعات، ويفضّل الناس بشكل عام اللجوء إليه للفصل في نزاعاتهم، لكن بروز مرجعيات جديدة تقدّمت على مرجعية الدولة أضعف من دور القضاء، وخصوصاً في ظل استشراء ظواهر العنف والإرهاب، حتى بدت الدولة معوّمة أو عاجزة أو حتى متواطئة مع القوى المتنفّذة.
وقد شهد القضاء العراقي تصدّعات وتحديات عديدة ما بعد الاحتلال فثمة عيوب ومثالب عانى منها بسبب حالة الفوضى السائدة وعدم استقرار الأوضاع والظروف الاستثنائية وطول الإجراءات وتعقيدات البيروقراطية والتدخّلات السياسية والحزبية والعشائرية، مع التأكيد على وجود قضاة نزيهين وشجعان، بل إن بعضهم دفع حياته ثمناً لموقفه وجرأته، علماً أن مجزرة القضاء التي قام بها بول بريمر، شملت نحو 250 قاضياً، تركت صدمة كبيرة على الجسم القضائي والقانوني، خصوصاً حين احتوت قائمة الذين تم عزلهم قضاة معروفين بكفاءتهم ونزاهتهم، وقد تمت إعادة بعضهم إلى الخدمة لاحقاً.
وقد واجهت احتياجات العدالة مشكلات متعدّدة ومتنوّعة، في السنوات الأربع الماضية، شملت معالجة مشاكل النازحين واللاجئين بسبب احتلال «داعش» للموصل وتمدّده في محافظات صلاح الدين والأنبار وجزء من ديالى وكركوك، الأمر الذي جعل أكثر من مليوني إنسان بحاجة إلى إجراءات استثنائية تقتضي إعطاء الأولوية لعودة النازحين وإعادة الإعمار والإصلاح والتنمية وإيلاء اهتمام خاص بالمحافظات المنكوبة، وخصوصاً الموصل والبصرة، و للناس الأشد ضعفاً، لاسيّما الفقراء والمهمّشين والنساء والأطفال والشيوخ وذوي الاحتياجات الخاصة، فهؤلاء يحتاجون إلى مسارات عدالة سهلة وسريعة ومعقولة لحماية حقوقهم ومصالحهم.
وإذا كان الإنسان (الفرد) هو محور العدالة، فلا بدّ من أخذ ذلك ضمن قاعدة شمولية كلية عامة تطبق على الجميع، فكلّ ظلم يتم منعه أو حلّه بإنصاف، يُسهم في تمكين الناس قانونياً، وخصوصاً إذا تم ربطه بالتنمية.
ويعاني قطاع الشباب بشكل خاص من مشكلات قانونية، سواءً في الحياة أو العمل، علماً أن قدرته على التحمّل كبيرة، قياساً للأكبر منه سناً، وكذلك لاستخدامه شبكات التواصل الاجتماعي ومنجزات الثورة العلمية – التقنية بما فيها تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات والاستفادة من مصادر المعلومات والمشورة القانونية.
وقد أشارت إحصائية صدرت في لبنان (2017) عن «معهد لاهاي للابتكار القانوني» (هولندا) HiiL
وبالتعاون مع «المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة» (بيروت)، فإن 73 % من الشباب يعتمد على هذه المصادر، في حين أن نسبة غير الشباب تقل عن 50%، وتظهر الدراسة أن معدل انتشار المشاكل بين الشباب، ولاسيّما الجرائم المنظمة وقضايا العنف والإرهاب، هي الأكثر شيوعاً على المستوى العالمي، بحكم اندفاع الشباب وروح المغامرة والتحدّي التي يمتلكها، ناهيك عن عدم تقدير العواقب القانونية لما يقدم عليه أحياناً.
أما احتياجات العدالة بالنسبة للمرأة فهي في الغالب تتعلّق بالتمييز وعدم اعتماد مبادئ المساواة، إضافة إلى القوانين المجحفة، وبعض التقاليد والعادات البالية بالضد من «اتفاقية سيداو» الدولية بشأن «منع جميع أشكال التمييز ضد المرأة» (1979). وتتدنّى ثقة النساء بالسلطات الرسمية لجهة تأمين مستلزمات احتياجات العدالة بسبب النظام الاجتماعي الذكوري والمنحاز، والتفسيرات الخاطئة والتأويلات المغرضة للنصوص الدينية.
لم يسأل ونستون تشرشل الزعيم البريطاني عن الدمار الذي أصاب المدن البريطانية بسبب القنابل الألمانية، بل كان أول سؤال وجهه لمن حوله: هل القضاء بخير؟ وحين كان الجواب مطمئناً، قال إن بريطانيا بخير، وهو الجواب الذي اطمأن إليه شارل ديجول حين دخل فرنسا محرّراً وسط دمار عام، لكنه حين عرف أن القضاء فعّال وأن الجامعات كانت تشتغل بطاقة وحيوية حتى في الملاجئ قال: إذاً فرنسا ستنهض.