زارني قبل مدة احد الأصدقاء الأعزاء الذي تربطني معه علاقة وطيدة تمتد لأكثر من ربع قرن , ورحبت به اشد الترحيب وقدمت له الضيافة العراقية المعروفة بسخائها, ولكنه امتنع عن الأكل حتى اقطع له العهد بان أنفذ له مايريد, وطلبت منه أن( يوجب الزاد ) وبإذن الله طلبه مستجاب , لكنه لم يستجب لطلبي , وقلت له أعاهدك باسم الله باني سألبي لك حاجتك إن كانت بحدود المستطاع , وعندها راح يحدثني بطريقة ( توسلية ) فعطفت على حاله لأنني أكن له الاحترام ولم أشأ أن أجده بحالة إذلال .
و بادرت بتشجيعه ليخرج مافي داخله , وفي قرارة نفسي حسبت انه يريد اقتراض مبلغا كبيرا من المال رغم علمي انه بمستو ملائم من الاكتفاء فهو ليس ميسورا لكنه ليس متعفف الحال , وبعد جهد جهيد بدأ بعرض مايريد , فقال إن ولده حصل على شهادة الماجستير بإحدى التخصصات العلمية , ولكنه بات يشكل مصدرا لقلق العائلة لأنه بحالة يأس ومنطوي وطبائعه أخذت تتغير من حال إلى حال أسوا لأنه أينما يقدم للتعيين لايحصل على فرصة عمل , حيث تذهب لمن يدفع ولمن يمتلك واسطة تعينه في التعيين .
واسترسل بالموضوع مترجيا أن أتوسط له للتعيين في إحدى تشكيلات هيئة التعليم التقني إذ وصفني بان لي علاقات مع مسؤولين فيها ومن المؤكد إنها ستحقق له المراد , وسألته هل قدم على التعيينات الجديدة من خلال الموقع الالكتروني للهيئة فأجاب بالإيجاب , فقلت له ادخل على زادك وطلب ابنه مستجاب بإذن الله , فعاش نشوة الفرح وأحسست إن هما بحجم الجبل قد أزيح من صدره وعندها تحول للحديث عن ذكريات علاقتنا القوية وافتخر أنها قائمة لحد الآن .
وقبل أن يهم بالمغادرة قال لي : هسة على من (يروح) ابني أو يأتيك وتأخذه بنفسك وتصنع فضلا لان أنساه وأضاف إلى ذلك ( إذا القضية تحتاج إلى دفع مبلغ أو هدايا لاتنحرج لأنني مستعد للدفع ولكن بضمان التعيين ) , وأجبته واثقا بأنه لاحاجة لان يراجع إلى أي احد حيث ستعلن الهيئة موعدا للمقابلة وربما يتضمن اختبارا بسيطا للاختيار بين الأفضل , وسألني غاضبا ( يعني ماراح تسويلة واسطة ) فقلت له إن التعيينات في المكان الذي ذكرته ليس فيه واسطات ولا ( توريق ) في وضع الإدارة الجديدة .
فاستشاط غضبا وقال لي بطريقة لاتخلو من التوبيخ ( أنت كنت تقشمر عليه وأنت اشبيك غشيم اكو تعيين اليوم بدون واسطات اودفع ) فأقسمت له باسم لفظ الجلالة بان هذا هو السائد في الهيئة التي قصدها ابنك إن كنت تصدق ذلك أم لم تصدق , وهنا ازداد غضبه ودمدم بعصبية وصياح ولم افهم من كلماته شيئا ورحل مسرعا , وحزنت فعلا على ذلك لأنني خسرت صديقا وفيا وعزيزا لالذنب ارتكبته إلا لأني نقلت له الحقيقة , وبالفعل غاب عني هذا الرجل وانقطعت إخباره لأيام .
وبعد أيام قليلة , زارني دون موعد وما إن فتحت له الباب وإنا مرتبك من ردة فعله حتى انهال علي بالتقبيل وبأعذب عبارات الاعتذار وسارعت لإدخاله إلى غرفة الضيوف وطلب مني أن يعملوا له الشاي , واستغربت اشد الاستغراب وظننت إن ابنه حظي بالتعيين وقبل أن يرتشف الشاي قال : لقد ذهب ولدي إلى المقابلة في الهيئة يوم الثلاثاء والتقى بالمتقدمين للتعيين جميعا رئيسها في القاعة الكبيرة وكان رئيس الهيئة وهو سيد ياسري اكبر من القاعة بكثير حيث تحدث للمتقدمين بطريقة أبوية وبحس المسؤولية العالية بحيث شعر ابني بكامل الاطمئنان بان التعيينات ستكون لمن يستحقها بالفعل وبالشروط والالتزامات التي عرضها الياسري .
وأضاف قائلا : لقد تغيرت نفسية ابني وأصبح منشرحا وبأفضل حال حيث رجع إلى دماثة خلقه وكأن الهم كل الهم أزيل من صدره , وقاطعته قائلا : لكن ذلك لايعني انه قد ضمن التعيين فقاطعني بثقة , لقد وجد الأمل من جديد مادام ( اكو) قائدا إنسانا بهذا المستوى العالي من القيادة والقدرة على التأثير بالآخرين , فاليأس الذي قد يصيب شبابنا في هذه الأيام ناجما عن ذهاب الفرص لمن لايستحقها بالفعل , ونقل لي كل مادار في ذلك اللقاء ( ولكني لاأريد الاسترسال عليكم بالتفاصيل ) .
وهذه الصورة لم أغير فيها نقلتها لكم من الحياة اليومية لأحد المواطنين , وما عساي أن أضيف شيئا سوى التذرع إلى الباري عز وجل بان يكثر من وجود هكذا رجال في المسؤولية لان إسمها كبير وعلى من يضطلع بها التذكر, بان الطيب يتذكره الناس في احترامهم لحقوق الآخرين وعكس ذلك ربما يسب ويشتم وينبذ ( ولو دامت لغيرك لما وصلت إليك ) , والقائد الإنسان هو من يكون خيمة للمظلومين وإعادة الأمل لليائسين , وما أحوجنا في هذا الزمن إلى قادة يكونوا بلسما للجروح وليس عبيدا للذات أو للانتماءات , دون أن يغفل أي منا إن بعد الدنيا حساب على الأفعال .