18 ديسمبر، 2024 9:07 م

حين يقيم الشعر نصباً للحرية : قراءة في “بروفايل للريح.. رسم جانبي للمطر”

حين يقيم الشعر نصباً للحرية : قراءة في “بروفايل للريح.. رسم جانبي للمطر”

 أحذرُ من التورط بالكتابة عن الشعر، لأني بصراحة لا أمتلك ما يكفي من الأدوات النقدية المنهجية التي تعينني في هذه المهمة العويصة. وليس عندي، سوى شغفي الحارق بالشعر، الذي أقرأ شيئاً منه في كل يوم تقريباً؛ قصيدة واحدة على الأقل.. وأخشى أن تشطّ بي مغامرة من هذا القبيل إلى تخريجات تظلم النص الشعري، وحرفة النقد، في آن معاً.. بيد أنني أقع أحياناً على مجموعات شعرية أتعلق بها، وأحبها. ربما لأن نصوصها تتسق مع إيقاعات روحي، أو تتوافق مع مزاجي الخاص، أو توصلني، خلسة، إلى فراديس أضعتها، فاندفع للتعريف بها والكتابة عنها. وأزعم أن مجموعة ( بروفايل للريح.. رسم جانبي للمطر )* للشاعر جواد الحطاب واحدة من تلك المجموعات.
   حالما انتهيت من القراءة الأولى للمجموعة طافت في ذهني بضعة أسئلة. الأول؛ أترى أن النص المعروض أمامنا للقراءة ( نص طويل، يعقبه آخر قصير بعنوان: شاعر ) قصيدة واحدة أم مجموعة من القصائد القصيرة المستقلة التي تتوالى في نسق تتابعي لتشكِّل في النهاية صورة واحدة كلية لها دلالات مضافة في وحدتها غير تلك التي تترشح عن كل مقطع منها؟. الثاني؛ هل يمكن قراءة القصيدة/ القصائد فيها بمعزل عن الصور المرفقة التي تمثّل أجزاء نصب الحرية لجواد سليم؟. والثالث؛ ماذا لو جرت القراءة بتوزيع الأبيات والمقاطع بشكل مغاير للشكل الذي ارتآه الشاعر في تصميمه لصفحات المجموعة؟. وأخيراً ما الذي سنخسره على صعيدي تأويل المعاني والكشف عن الدلالات من جهة، والمتعة الجمالية من جهة أخرى، لو قرأنا القصيدة/ القصائد بالتوزيع التقليدي المتوالي لمقاطعها، من غير فواصل وفراغات؟. ولعل هناك أسئلة أخرى ستنبثق في أثناء الاسترسال في القراءة الثانية ومحاولة كتابة انطباعات سريعة عن المقروء.
   فضلاً عن الأسئلة آنفة الذكر وغيرها تتولد ملاحظات أولية عند القارئ عن طبيعة النص الذي بين يديه إن كان على مستوى البناء الفني والجمالي له أو على صعيد المعاني والدلالات التي تتخاطف لتشبع أفق التلقي وتحقق الهدف الأسمى من القراءة، أية قراءة، أقصد؛ الدهشة والمتعة. أولى هذه الملاحظات هي أن الشاعر يكثِّف عالماً بأكمله وتاريخاً عريضاً في قصيدة واحدة طويلة، أو هي متوسطة الطول.. وأحياناً نجد في المقطع الواحد امتدادات للمكان والزمان، وكأن سيرة مجتمع ومدينة تسري نسغاً في جسد القصيدة؛
   “لبغداد أربعة أبواب/ باب كلواذا/ باب الظفرية/ باب السلطان/ و.. باب الطلسم/ الآن لبغداد باب واحد/ باب الـ آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآهـ
………………
وتعددت الأيام:/ الجمعة الدامي/ الأحد.. الثلاثاء.. السبت.. الأربعاء/ ..امتلأ الأسبوع دماً/ فمن أين سنستأجر أياماً بيض../ وهمرات/ فتاوى/ الأحزاب/ سجّلتنا: (زائدة ) حياتية!!!!!”.
يحيل الشاعر خبرات الواقع المعيش/ اليومي، ومفرداته الاعتيادية المستهلكة، المتداولة على ألسنة الناس، أو في قنوات الإعلام، إلى جمل شعرية ذات أبعاد كونية، أو مؤسطرة، من غير أن يسقط في فخ التقريرية الفجة والكتابة المباشرة.. 
   الملاحظة الثانية التي يخرج بها القارئ هي أن الجملة الشعرية عند الحطاب قصيرة، موجزة، مقتصدة، لكنها موحية، مرهفة كحد السكين، مشحونة بانفعالات حادة..
   “عبروا الشوارع.. فارغات/ نصف منتصبين/ نصف أوادم/ لم يرقبوا: الأبواب.. تُفتح/ ثمّ تُغلق/ والنوافذ…..”.
   أما الملاحظة الثالثة فمؤداها أن القصيدة/ القصائد تصدر عن نفس كئيبة مجروحة، ووعي مصدوم، وبنبرة مفعمة بالشجن والعذاب.. وهي لا تخلو من روح التهكم. ويلجأ الشاعر، أحياناً، إلى السخرية. لكنها السخرية المرّة، السوداء؛
   “أيتها المرأة/ لا ترمي القشة التي كنستها من ساحة التحرير/ فهي من ذريتي..
ويا أصحاب المطاعم القريبة/ نظفوا الأواني جيداً/ فعمّا قليل../ ستأتينا المسرّة جائعة”.
    فيما التراسل الذي يحدث في مجموعة جواد الحطاب بين الشعر والفن التشكيلي يفتح مسارب لتدفق المعاني.. تتحول أجزاء نصب الحرية لجواد سليم إلى صور ملهمة غير أنها صور تعيش في استقلال عن الرحم الذي ولدت منه.. يفضي بنا التمعّن في الصور إلى فهم أوسع وأعمق للنص. هكذا يخيّل لي. وتجعلنا القراءة المتبصِّرة للنص ننظر إلى الصور بعيون أكثر حدّة وصفاءً.. فنرى، في سبيل المثال، كيف يتصل رمز القوة والثورة/ الحصان، برمز الألم والحب/ الأمهات، فيتجلى مشهد الخروج من الزنزانة إلى فضاء الحرية:
   “تبرّعت الأمهات بصراخهن إلى الحصان/ فلا سلاسل تقيّد الصهيل…
   من همسة آلاف سنة/ يتوشح بالحياة/ شعفاته: يا ما كان../ وحوافره الريح!”.
 يُحيل جواد الحطاب في مجموعته تجربةَ حياة مجتمع ( مجتمعه )، وخبرة مستخلصة من رحلة عقلِ ووجدانِ ذات ( ذاته ) إلى دنيا الشعر.. دنيا الورق، الصغيرة بأبعادها الفيزيقية، الواسعة بفضائها الروحي والعاطفي، وكونها الدلالي.. وهو ما يعبِّر عنه الشاعر الصيني لوتشي ( ت 303م )؛ بالقول؛ “إننا ( الشعراء ) نأسر المساحات التي لا حدّ لها في قدم مربع من الورق، ونسكب طوفاناً من القلب الصغير بقدر بوصة”. وإذذاك يقرع الصمت لتجيبه الموسيقى ( لوتشي أيضاً ).. إن ما عاشه ورآه الشاعر هو ما كتبه أخيراً، ولكن بعد إنضاجه على نار موهبته الهادئة. مراوغاً العالمَ باللغة، مستثمراً اليومي والشعبي والاعتيادي أحياناً، ومرتقياً إلى المجرّد والسامي أحياناً أخرى، ليخلق قصيدته/ نصبه؛
   “لا تبيّضوا ) دمنا بـ ( التداول اليومي )/ نطالبكم بترشيد القتل/
   جثث نوافل/ جثث غوافل/ جثث زرقاء/ جثث بنفسجية/ جثث.. بلا جثث/
   كل يحمل نعشاً/ ويناديه وطني”.
   إن تكراره لكلمة ( جثث ) لم يكن بداعي إيجاد إيقاع لمقطعه فحسب، بل لتأكيد مفارقة ذات شحنة كابوسية، تصل ذروتها في آخر المقطع، حين يستحيل الوطن إلى نعش، أو بالعكس.
   سيتمثل أفق انتظار القارئ، أو ما سيشغله في عملية القراءة، بالكشف عن العلاقة بين الكلمات والصور.. بين الشعر والأجزاء المنحوتة. ولن تغيب عنه فكرة؛ هل حقاً استلهم الشاعر كلمات قصيدته من خبرته البصرية في معاينة النصب بتأمل عميق، أم أن ما كتبه كان بوحي من نصب آخر متخيل في ذهنه، لا يطابق إلا جزئياً نصب الحرية الموجود بكتلتها، حقيقةً مادية، في ساحة التحرير ببغداد؟. والشاعر، ها هنا، لا يصف، ولا يعلّق، بل ينشئ نصبه الخاص بالتناظر، أو بالتوازي مع نصب الحرية.. في تفصيل واحد من تفاصيل نصب جواد سليم هناك الأم التي تحتضن طفلها ملتمة عليه، تبدو وكأنها تحميه من خطر ما، أو تفيض عليه من نبع حنانها. لنرى بالمقابل، كيف تنهمر في قصيدة الحطاب، “حبة دمع واحدة/ من عين أم” وهي “كافية لتعقيم الملائكة”.
   تتأتى فرادة قصيدة الحطاب من هذا الإيقاع الذي يؤصله تدفق الصور.. إنها الصور التي تتوالى تاركة فيما بينها فراغات، تشبه هنيهات الصمت القصيرة، أو المتناهية في القصر، بين وحدات اللحن الموسيقي. وهذه تحتاج إلى رهافة حس القارئ ووعيه للإمساك بجمالياتها، ناهيك عن تأويلها؛
   “لا أجراس في عنقه….. هو.. الثور السماوي….. يرى ما لا تراه المدينة:/ تحت الضروع/ يهرِّب الرعاة/ أصابع الديناميت!!…… أدفعاً لاشتباه العشب/ صنع القدماء للثيران أجنحة؟!…..”.
   ها هنا يتجلى التاريخ متسرباً بين حنايا الحاضر.. ثور الآشوريين السماوي في موازاة ثور نصب الحرية، لكن بالتضاد مع ثور القصيدة. إن رمز القوة والكبرياء لم يصنع في النهاية الحرية بل التشرذم والعبودية والرعب والموت؛ “محراث خفي/ يمتد من ظهره لقرميد ( ساحة التحرير )/ ..مهمولاً يجر السلالات/ المعابدَ/ والآلهة/ ( على عدد المعابد يستهلك العراقيون آلهة )”. إن تاريخ العنف يهبّ بضراوة عبر النوافذ الخفية، والمشرعة، لقصيدة الحطّاب. لكنه لا يريد الإذعان لمنطق الهزيمة، الهزيمة التي يقترح احترامها في المقطع الأخير من مجموعته؛ “حين يكون لا مجد في الانتصار”. في الوقت الذي لا يريد ان يغادر منصة الشعر من غير تبصر رؤيوي؛ هو بروق أمل تضرب في ليل العالم؛ “لا تقولوا وداعاً للتماثيل/ ولا تندبوا الزقورات/ ثلاثاً ستنبعث بغداد/ ثلاثاً../ ستنبعث”.     
   يجترح الحطاب بلاغته الخاصة من خلال اللعب باللغة، مستخدماً استعارات مفاجئة، مؤالفاً بين مفردات، تبدو للوهلة الأولى متباعدة، عسيرة الانسجام فيما بينها. وما يفعله ليس رجماً بالغيب، بل محاولة لجعل الجمال صادماً، والمعنى غير متوقع؛ “ومن مرقاي/ تطرق عيناي/ الغامض من سندان الليل”.
“رأيتهم/ يموِّهون بالذهب قبضات اسئلتهم/ ويقدمون لك الأجوبة/ في بريد مساء السبت!!”.
“هذا النشيد ألأحدب الذي عزفته الحادلات”.
“أجلس عند مفترق الهتافات”.
    إنها في خلاصتها قصيدة شهادة على مرحلة، وقد أبصرها ومن ثم صوّرها بعين الإبداع.. وقصيدة احتجاج مريرة، مفعمة بالشجن والسخرية المؤلمة.. “المزيد من الألوان….. المزيد من الثانية ظهراً….. لثلا../ تنمو على النايات/ ساعات حظر الليل”.
   لا تنمو هذه القصيدة مثل شجرة مفردة وارفة، بل تستطيل وتمتد مثل حقل من العشب، تتناثر فيه شجيرات صغيرة نضرة.. قطعة من تنويعات لونية، ترتعش تحت مطر مؤسِ يبعث على الشجن، ويثير الأسئلة، والأفكار، ويغمرنا بالدهشة والجمال!.
* ( بروفايل للريح.. رسم جانبي للمطر ) شعر؛ جواد الحطاب.. مؤسسة شرق ـ غرب للنشر.. بيروت.. ط1/ 2012.. 110 صفحات.
[email protected]