18 ديسمبر، 2024 8:07 م

حين يشدو النخيل

حين يشدو النخيل

(فصل من حكاية طويلة)
على ذلك الكرسي المنزوي وبعد أن أخذ قسطا من الراحة، وجد الضيف نفسه في معنويات عالية جدا وعلى إستعداد كامل للصبر والتحمل فترة أطول، بل حتى بات لا يفكر كثيرا في عودة مُضيفه الذي إضطر على تركه وحيدا، إثر نداء من والدته ولأسباب تتعلق بشؤون البيت على الأرجح، وسوف لن يغيب طويلا كما وعده. وبعد تأكده من خلو الطريق من المارة، وإذ به يمدٌ بناظريه بعيداً وعبر نافذة الغرفة المطلة على البستان، ماسحا ما بان منها وما خفي قدر ما يستطيع. شدَّ إنتباهه ومن بين صفوف متراصة من النخيل ومثلها من أشجار البرتقال وما يدخل في صنفها شيئا ما أو حركة لم يستطع بداية الأمر من تمييزها أو إستجلائها على وجه الدقة. لذا وبدافع لا يخلو من الفضول ومن قبلها الرغبة في معرفة ما يجري راح محدقا وبتركيز عالٍ ولبرهة من الوقت حتى إنجلت أمامه الصورة على نحو واضح، انه أحدهم، ملامحه من بعيد أو بالأحرى ملابسه لا تشير الى ذات الشخص الذي مرَّ قبل قليل بالقرب من النافذة.
تابعَ الضيف ما كان يقوم به ذلك الرجل وشيء من القلق بات ينتابه: كاد أن يهوى وهو لما يصل بعد منتصف ساق النخلة التي يروم بلوغ قمتها، وأعتقد بل أجزم بأنه سيتمكن منها في نهاية الأمر، ولكن عليه تجاوز تلك اللحظة الحرجة التي يمر بها الآن، ولابد له في بادئ اﻷمر من السيطرة على آلة التسلق البدائية التي يستعين بها والموروثة أباً عن جد، حيث تحيط وتمسك بوسطه وبجذع النخلة كذلك، كي يعيد توازنه ويواصل مشواره. انها عملية ليست بالسهلة، فساق النخلة التي اختارها نحيفا جدا وخلا جذعها من أية نتوءات بارزة، يستعين بها، من أجل التثبت والصعود الى غرتها بتأنٍ وسلام، كل ذلك ضاعف من صعوبة تسلقها.
هكذا بدت الصورة للضيف من بعيد، عازما على متابعتها ورصدها بدقة، واضعا نفسه على أهبة الإستعداد لأي طارئ، فإذا ما ساء الحال وحدث ما لا يحمد عقباه وبات المتسلق في وضع حرج، سيكون عند ذاك رهن اشارته وتصرفه وأول المعينين له، حتى لو إستدعى الأمر الخروج من النافذة بإعتباره أقصر الطرق للوصول الى البستاني. وسوف لن يعير اهتماما إن تجاوز وضرب عرض الحائط كل الوصايا والتعليمات المتعلقة بشروط الضيافة، والتي ما انفكت تصدر من مضيفه ووالدته وكلما قام بزيارتهم.
لبضعة دقائق، إنتابته حالة من القلق، ولم تغادره الاّ بعد أن تأكد من نجاح المتسلق إجتياز أصعب العقد التي واجهته أثناء صعوده الى القمة، وليتنفس معها الصعداء. وفي تعليقه على ذلك قال: على ما اعتقد فإنه سوف لن يتراجع الا بعد أن يكون قد بلغ غرة النخلة، ويكون حينها قد إستغرق في شم عطرها والإطمئنان أيضاً على ما تحمله من ثمار طيبة، دون أن يفوته تحسس مذاقها. هي لا تشبه أي ثمرة بل هي مَنْ تفرَّد خالقها وبضعة من أشجار أخر من أخواتها في مباركتها، موصيا بها، مودعها تحت رحمة ورعاية تلك الأيادي الطيبة التي تليق بها، داعيا كذلك الى حمايتها من كل ما يصيبها من عين حسود.
لم يكتفٍ الضيف بهذا القدر من الدهشة وإبداء الإستعداد لكل مكروه وطارئ، بل لا زال في جعبته الكثير من الكلام، لِمَ لا وقد أعجبته تلك الصورة أو لنسميها تلك اللوحة أيما إعجاب، لذا راح يضيف وبلغة ستبدو لمن كان يصغي اليه لحظتها، كما الذي خرجَ تواً من مشاهدة شريط سينمائي مشوق وبأحداث متسارعة لم تخلُ من مفاجئات ومصاعب. وسيتوقف كذلك ولوقت ليس بالقصير عند بعض اللقطات المهمة، والتي كان قد استقاها مما رأته عيناه، ليلقي الضوء عليها: ملامح الشخص المتسلق بدت تتضح شيئاً فشيئا حتى أكاد أجزم بأنها إكتملت.
إنه كهل ربما قارب الستين من العمر، أي أصغر من عمر النخلة التي يتسلقها بمقدار الضعف على أقل تقدير، هذا ما تنبئ به بُطء حركته ودقته وتأنيه، ولا أظنكم ستستبعدون أو تستغربون إحتمالا كهذا، فأفضل متسلقي النخيل هم من كبار السن، وأعتقد ان رأيا كهذا لهو أمر مفروغ منه ومُدعماً بالكثير من الأدلة والبراهين، هل تريدون التثبت من ذلك، طيب، لذاسآتيكم بمثال بسيط وسريع، فإذا نظرتم الى الرجل وحين ملامسته للثمرة وعثوقها النضدة وكيف يتعامل معها، لرأيتم كم هو مشفق عليها وكم هو أنيق في صلته بها ومحب لها. إنها أمّكم وعمّتكم النخلة، هذا ما تعلمَّه من اﻷسبقين وما أراد إيصاله لنا، نحن الذين ما فتئنا نجحد في بركات ثمار تلك الشجرة المباركة.
حين وصل غرتها طاب له المقام وراح يشدو ما يحلو له من المواويل والعتابا، ربما أراد بذلك تمهيد طريق عودته، والتي سوف لن تقل صعوبة عن صعوده، خاصة وإن النخلة التي اختارها للتسلق تبدو الأطول والأنحف كذلك في بستانه بالقياس الى ما جاورها من النخيل. هناك أمر آخر، علينا أن لا نغفل عنه والذي سيضاعف بكل تأكيد من صعوبة نزوله، فالرجل بات الآن يحمل معه بعض من عثوق تلك الثمرة، حيث قام بتعبئتها في سلة صنعت خصيصا من سعف النخيل، اختار لها أن تكون لصيقة بظهره، ومنذ أن بدأ التسلق وما إنفكت ترافقه حتى اللحظة، رغم ما لاقاه من مصاعب. انها ثقيلة الوزن بكل تأكيد بسبب ما احتوته من تلك الثمرة الطيبة، حتى أوشكت أن تسقط أرضا لولا فطنته وخبرته وحسن تصرفه عند المنعطفات الحرجة.
في هذه الأثناء وبينما كان الضيف منغمسا في رصده للمشهد، وصل مسامعه صوت نباح أحد الكلاب، غير انه لم يتفاجأ بذلك فهو من بداهة الحال فكثيرا ما تعج البساتين بالأليفة منها والحارسة بل وحتى الضالة، ما يعنينا هنا ان هذا الصوت لم يدفعه الى التوقف بل تجده مستمرءا لعبة الوصف إن لم تزده حماسا: إنَّ الرجل المتسلق وعلى ما تراه عيني ومن المكان الذي أقف عنده بدا كما الذي غطّى رقبته بشالٍ رحب الحركة، هفهافاً، فضفاض. يبدو وعلى ما أرى بأنه حافي القدمين وأظنه حسنا فعلإ فسيساعده ذلك ومن خلال أصابع قدميه بتحسس وتمييز تلك المناطق الآمنة من الجذع عن غيرها. أما ما يرتديه فهو عبارة عن جلباب بسيط، بانت شقوقه رغم عمليات الرتق العديدة التي أجريت له، وكي لا تظنوه بخيلا فقد كان حريصا على إستبدالها كلما دعت الضرورة، ولما بلغ به اليأس مبلغا ومع تقدمه في السن فقد قرر إرتداءذات الجلباب رغم العيوب الظاهرة عليه.
أمّا إذا شئنا التحدث عن بشرته فأظنها بيضاء اللون في الأصل إن لم أكن مخطئاً، هذا ما أنبأت به إنكشاف ساقيه وما بان منها من غضون وتجلد، غير ان سطوع الشمس ولفحتها وبقاء الرجل فترة طويلة تحت تأثيرها ووهجها ولعقود من الزمن، جعلت من لون بشرته يميل الى السمرة. إنظروا الى قمة رأسه فها هو يعتمر قلنسوة ذات قياس مناسب جدا، مخططة باللونين، الأبيض والأصفر الفاتح، هذا ما أخمنه فهي شائعة الإستخدام لدى العامة من الناس القاطنة في تلك المناطق، طيب إن لم يكن هذا لونها ولم تتفقوا معي فلنقل هي حائلة إذن، لذلك ستجدونها متماهية مع محيطها.
وقبل أن ننسى أمراً آخر على صلة بموضوع التسلق، فحين وضع الرجل رجليه على ساق النخلة ومن أول لحظة، إنتبه الى أمر في غاية اﻷهمية، انهما خفّيه فعليه خلعهما قبل الشروع بعملية التسلق، فأصابع قدميه ومع تزايد خبرته باتتا أكثر تحسسا للمواضع الآمنة منها وغير اﻵمنة. المهم أرجو أن لا تتوقفوا طويلا عند هذه الجزيئات الصغيرة التي جئنا على ذكرها توا فهي ليست بتلك الأهمية، فما يعنينا في هذه اللحظات هي حركة الرجل المتسلق وقلقنا عليه، لاسيما وانه أخذ بالترنح، تارة نحو اليسار وتارة نحو اليمين، مما يدلل الى أنه بدأ يواجه صعوبة حقيقية في التحكم والسيطرة على حركته. إن قلبي معه وكل تمنياتي وتمنياتكم أيضا له بالتوفيق والنجاح، ولكن لا تنسوا فأنا بإنتظار تلك الثمرة التي سيأتيني بشيء منها على ما أأمل، فليباركه الرب ويحميه من كل مكروه.
للأسف فالقصة لم تنتهِ عند هذا الحد، والقلب لم يطمئن بعد. فبعد أن بانت على الرجل بعض المؤشرات التي تدعو للقلق، كالقيام ببعض الحركات التي لا تخلو من خطورة، وكذلك في إستغراق خطواته التي يتوجب عليه القيام بها وقتا أطول مما تستحق،وما رافقها من تصبب للعرق على ما بدا من جبينه وصدغيه وحتى الرقبة، كل ذلك سيلقى من لدن مَنْ يرصده تأثيرا سلبيا، سيجد له إنعكاسا في اللغة التي سيستخدمها في وصفه للمشهد الشاخص أمامه، وفي طريقة تناوله لما يحدث للرجل إذ تجده معلقا: بسبب ما يلاقيه من صعوبات لم تكن متوقعة، إضطر الرجل المتسلق التوقف لمرات عديدة عن مواصلة مشواره. ولكي يستعيد سيطرته وبعد استراحة قصيرة شرع بترتيب شاله الهفهاف الذي بدا معرقلا لحركته بعد أن مسح قطرات العرق المتصببة وبشكل خاص من على وجهه، ثم قام بعد ذلك بإعادة النظر بغطاء رأسه من جديد، مبتدأً بإعادته الى مكانه الصحيح أولاً ثم الضغط عليه بقوة من أجل تثبيته، مخافة تعرضه مرة اخرى الى أي مكروه، فَجُروح وتخدشات الأسبوع الماضي التي كان قد تعرَّض لها أثناء تسلقه أيضاً لإحدى النخلات الفارعات الطول، لا زالت طرية وأمر إندمالها سيأخذ بعض الوقت.
مَنْ تَخَبَّرَ بلغة النخيل سيقول عنها بأنها سيصعب عليها التكيّف وإستقبال كائن مَنْ كان، وبشكل خاص أولئك الذين تنقصهم خبرة التعامل معها. وفي تفسيرهم لهذه الظاهرة وعلى ما يراه البستانيون فإنها تُعد من الوسائل التي تتوفر عليها وتستعين بها من أجل الدفاع عن نفسها، على الرغم مما هو معروف عنها بالتواضع والبساطة والغفران كذلك إن استطاعت اليه سبيلا. أما إذا لم يُحسن أحدكم التعامل معها فستبقى عصية الطوع، أبية الإنحناء. وبتلك الصفات الآنفة، ستشبه والى حد بعيد الكثير من الأشجار السخية المعطاءة والحذرة في آن، وربما يكمن في ذلك سر قوتها وصمودها وبقاءها شامخة، رغم تبدل العصور والأزمنة وما حِيكَ ويحاك، وما يبيت لها من بعض المتربصين، الذين لا يريدون لها الخيرا.
لعبة الوصف هذه راقت للضيف، فراح مستكملا ما تراه عيناه في البستاني، ليسرح ويمرح وبما يشاء ويحلو له من الإنطباعات وبشكل مفصل ودقيق، خاصة حين اختار التوقَّف طويلاً عند اللحظة التي تُظهر الرجل المتسلق وهو في حالة حرجة جدا، عندما بدا كما المعلق بين السماء والأرض، ليقول عنها: من المؤكد انه قد وصل الى منتصف المسافة الواقعة بين جذع النخلة الثابت على اﻷرض والممتد الى باطنها والمجاور لإحدى الفسائل، وبين غرتها. وقبل أن يواصل البستاني طريق العودة، وبسبب ما يلاقيه من صعوبات فقد قرر الإستراحة مرة أخرى، مستثمرا الوقت لأمر في غاية الأهمية بالنسبة له، لذا راح مخرجاً من جيب جلبابه الأيمن علبة مستطيلة الشكل، فضية اللون،ذات معدن لماع، يبلغ حجمها ما يغطي كف يده أو أقل بقليل. قام بفتحها، مستلا منها عدد قليل من ورق البافرة المحلي الصنع والخاص بلف التبغ ( لعل الأمر الوحيد الذي لم يتأكد الراصد من إحصاءه بدقة هو عدد أوراق البافرة التي أستلها من العلبة) وليس أي نوع أخر من التبغ كما تعتقدون، بل هو ذلك الصنف القادم من شمال الوطن تحديدا، بإعتباره من أجود انواع التبوغ والذي يفوق في مواصفاته ذلك المستورد والمهرب كذلك من خارج الحدود.
وبحركة أصابع رشيقة، سريعة، تنم عن خبرة طويلة، لم تأخذ من وقته سوى دقيقة أو أكثر قليلا، استطاع أن يهيأ من عدته البسيطة تلك والتي يحملها معه أينما حل وارتحل، سيكارة أنيقة صلبة، ذات قوام نحيف كنحافة الشجرة التي يتسلقها، تقارب في طولها أحد أصابع يده. تلى ذلك أن تذكر بأنه كان قد اشترى قبل يومين بلسماً جميل الشكل لم يدشنه بعد وها قد حان موعده، ليضع سيكارته فيه لتبدو الصورة للرائي على نحو من الأناقة التي تليق به وباللحظة التي هو عليها.(كيف استطاع المتابع ومن بعيد تمييز لون العلبة وحجمها ونوع الورق المستخدم في لف السيكارة وما أرفق بها من حركة، هذا لعمري أمر محير، ولكن لِمَ الغرابة فالقصة حتى الآن لم تخرج بعيدا عن تلك المخيلة التي يتمتع بهاصاحبنا).
بعدها أخرج الرجل المتسلق والمحلق في فضاء الله ومن جيب جلبابه الأيسر إحدى القداحات الأثيرة والقريبة الى قلبه، والتي يعود تأريخ صناعتها الى أكثر من عقدين من الزمن، حيث بقي متمسكا بها رغم كل العروض السخية التي قدمت له من أجل مقايضتها بالأجمل والأحدث منها. وبقدحة خاطفة، بان وهجها من بعيد وكاد صوت قدحتها أن يصل مسامعي. هذا ما زعمه الراصد، ساحبا منها البستاني ما راق له من نكهة ومذاق، شاعرا بنشوتها وليست كأي نشوة حيث تصاعدت معها رغبة شديدة على قضاء فترة أطول هناك، متطلعا ومن ذلك الإرتفاع الذي قد يصل الى منتصف ساق النخلة التي يعتليها، الى ما بان من البيوت التي باتت تحت مرمى ناظريه، والى ذلك النهر الصغير وبضعة من صبية الحي، يعومون وهم في كامل عنفوانهم وفي أقصى درجات المرح واللهو، ليعود من جديد الى محاولاته، مبتدءاً بتثبيت قدمه اليمنى على ساق الشجرة الباسقة، غير انه للأسف وكما يتضح قد فشل حتى اللحظة، ربما سيحاول إيجاد موطئا لقدمه اليسرى كبديل عن ذلك، وهذا ما أتأمله وأتمناه، فليس من المعقول أن يستسلم وتَفل عزيمته ويتراجع، خاصة وأنه قد قطع مسافة لابأس بها، تجاوز معها كل الصعاب التي إعترت طريقه في ذهابه وإيابه ولم يبق لإستكمال مهمته الا بضع خطى.
ثم عاد الضيف ليقول: أجزم بأن بلوغ القمة أي قمة ليس بالأمر السهل، وطريقها ليس معبداً بالورود أو بالنوايا الحسنة، إذ هما لا يكفيان، فالرجل وكما يظهر أمامي في ورطة حقيقية، وقد يسقط من عليٍ بعد أن بدت تظهر عليه بعض من مؤشرات ضعف السيطرة بل ها هو الآن يترنح. لا تلوموه فله كل الحق، فجذع النخلة وعلى امتداد طولها وكما ذكرنا سابقا يبدو مسطحاً بشكله العام، وهذا واضح من حركة ساقيه وتنقلهما، ويعد هذا دليلا قاطعا على عدم إستقرارهما على نقطة أو ركيزة بعينها. أي بمعنى آخر وإذا ما أراد العودة الآمنة وإستكمال مشواره ومن حيث إنطلق، سيتوجب عليه والحالة هذه بذل مجهود مضاعف كي يجد ضالته ويعثر على النتوءات البارزة بالرغم من ندرتها، ثم عليه أن يقوم بعد ذلك بتثبيت قدمه عليها والتشبث بها بقوة، لتساعده على مواصلة طريقه، وأعتقد انه سيفعلها وينجح. ألم أقل لكم ان الصعود الى القمة ليس بالأمر السهل؟ فمهما بذلت من جهد وطاقة وعلى الرغم من أهميتهما، اﻻّ انهما لا يكفيان ولا كفيلان لبلوغ ما تبتغيه إن لم تَشفعهما بطرق تفكير منطقية وصحيحة.
هنا يستحضرني سؤال، يقول الضيف، فالرجل وقبل شروعه بالتسلق، ِلمَ لَمْ يقم بهز جذع النخلة ويجنب نفسه شر المغامرة وتوابعها، فمن غير المستبعد إذ ذاك أن ينجح في إسقاط ثمرها، أو إن شاء وفي موسم آخر يمكنه القيام بتلقيحها، غير انَّه تنبَّهَ سريعا الى ما صدر منه ومعاتبا اياها في ذات الوقت: ما بك يا رجل، فالفكرة قد لا تتوقف عند رغبة البستاني في الحصول على الثمرة فحسب، فقد تكون أبعد وأعمق من ذلك بكثير، وهو في حلٍ عن الكشف بما يخطط له وما ينتوي القيام به. ناهيك عن أن موسم التلقيح وتوقيته لا يتزامنان بل لا يلتقيان مع موسم الحصاد وقطف الثمار، وهز جذع النخلة قد لا يضمن تلقيحها، وساعة ذاك سوف لن تأتي النتائج وفق ما أرادَ لها.
وحتى لا يمر هذا الأمر بعجالة فأصحاب هذه المهنة النبيلة يقولون والعهدة عليهم، بأنَّ عملية التلقيح الذاتي قد تنجح مع هبوب الرياح وبالتظافر مع عوامل أخرى، أمّا أنا المعلم في مدرسة الإبتدائية، فلست على علم كافٍ بذلك ولا أستطيع القطع برأي كهذا، فعلاقتي بحرفة الزراعة وما يتصل بها تكاد أن تنعدم، غير ان ما يمكن القول هنا بأن الرجل البستاني وأكاد أجزم قد تعذَّرَ عليه هز جذع النخلة، فقد بلغ أو تجاوز الستين من العمر، فَفعْلٌ كهذا يتطلب قوة مضاعفة كما أسلفنا الذكر. وبسبب من تعذر إنجاز مهمته وتعذرها لحد اﻵن، كان من الأجدى والأجدر به تكليف أحد أولاده وممن يعتمد عليهم، من أجل القيام بالمهمة ويكفيه شر المغامرة وما يمكن أن يترتب عليها.
في هذه الحالة والقول لا زال للراصد، سيبرز تساؤلاً مهما آخر، لا ينبغي لنا إهماله أو تجاهله، فالرجل ربما لا زال عازباً!. وإذا ما كان الأمر كذلك فيمكن أن يعطى العذر، ولبدا طبيعياً ويمكن تفهمه، فهناك الكثير من الناس ومن كلا الجنسين ممن فاتهم العمر، اختاروا أن يبقوا عزابا، مفضلين الوحدة على التوائم والإتفاق مع الآخر. وستلتحق بهذه الشريحة فيما بعد وبما لا يدع مجالا للشك جمهرة من المطلقين والمطلقات، ممن زهقت أرواحهم بهذه العلاقة والوثاق الذي أريد له أن يكون أبديا ومحفوظا باللوح المكتوب، وسيحاسب عليه في حالة إختلاله يوم قيام الساعة.
لذا ولِما فات ذكره، لا أجد مجالا لإلقاء الملامة على الرجل إذ ربما حسبها على نحوصحيح، وسنضع هذا الرأي في خانة الإفتراض وعلى أساسه سنصل الى سيناريو آخر، سيقوم على النحو التالي: إذا ما كان قد تورط وإقتنع بفكرة الزواج ومنذ بواكير حياته ومضى فيها وأرتضى بإحداهن قرينة له، عند ذاك كان سيتحول حكماً وبفعل المعاشرة الطويلة وما سيتخللها من أحداث ومشاكل وتداخلات، الى رجل مكبل اليدين والرجلين والصدغين وما يعتليهما، هذا إن بقي من رجولته شيئ يذكر، إذن في هذه الحالة مَنْ سيقوم بتسلق النخلة وَمَنْ سيرعاها؟.
وكي لا يُتهم الضيف بالإنحياز لطرف دون الآخر، أو يعتقد أحدهما بأنه على حق واﻵخر على خطأ، فقد ختم تصوراته عن الرجل المتسلق وعن فكرة الزواج عموما بالقول: إن الحديث موجه لكلا الجنسين، للذكر والأنثى على حد سواء. أما لماذا غاص صاحبنا عميقا في هذا الموضوع، فعلى ما أعتقد بأنه قد أراد الإتكاء على بعض الذرائع والحجج التي سيجد من خلالها أسباباً مشروعة، تبرر له عزوفه عن الزواج، ناسيا ما كان قد إفترضه وتمناه في تذوق حلاوة التمر، والتي ستأتيه على يد متسلق النخلة الباسقة.