23 نوفمبر، 2024 2:32 ص
Search
Close this search box.

حين يتحول الإبداع إلى طقس صوفي

حين يتحول الإبداع إلى طقس صوفي

حين يتحول الشعر تحديدا، والإبداع بشكل عام إلى فعل كينونة ونشاط محفز للنفس البشرية المتّقدة عملا إبداعيا مثابرا وجادا وأمين كذلك، وبصرامة تفاصيل الإبداع والحفاظ على مساربه وتكويناته، أمام قارئ يريد المبدع منه ان يضاهيه خلقا ورصدا فاطنا وبإلحاح غريب، الامر الذي يشيع حالة من الفرح لدى المتلقي بأنه أمام خزين إبداعي يسعى لتأسيس وشيجة لا تخضع لظرف طارئ، بل تظل لصيقة له، ولعلها توضح له درب المعرفة الإبداعية بحمولاتها ومعانيها ومقاصدها وكل ما يتعلق بهذه الحالة التي بالتالي تبعث على الإعجاب والتقدير وكثير من الاعتزاز، حين يجد القارئ الذي من طراز خاص، أنه يكتشف مواجد خلق جاد تعنيه هو دون سواه، وهنا تكمن مصداقية ووفاء المبدع إسماعيل أكبر محمد، وبشكل مغاير تماما لمن يلقي منتجه على عواهن لا تعنيه، بل فقط لشغل فراغ، يشعر هو بأنه قد ملأه، دونما وعي ومثابرة وقصدية إبداعية تحترم ذائقة المتلقي، لأن الكاتب حين يبدع لحظته ويؤثثها بنص جديد، في كل روافد الإبداع المتميز، يتقصد البحث عن قارئ يحتاجه ليقوّم عمله، لا ليحابيه بكلمات وإشارات قد يغلّفها النفاق والرياء، وهذه حالة معروفة وطاغية تماما في المشهد الثقافي، دونما تحديد للزمان والمكان، من خلال تجارب متابعة تدرّجتُ في دربتها لأكثر من خمسة عقود، وهذا زمن طويل لمتابع وشاعر وناقد ومترجم، تشي تجربته وحتى حقيقة وجوده الإنساني أن يكون بعيدا عن اشغال الحيز الأجوف في دواخل كل إنسان، تاركا الجوانب المضيئة التي تشد كثيرا من عضد الكاتب الجاد ومبدع النص المائز.
هذا ما عايشته بكل تفاصيله من خلال تشريفي بترجمة ديوانيّ الشاعر والكاتب المبدع إسماعيل أكبر محمد، هذا التشريف الذي بقدر اعتزازي به، اعتبرته تكليفا وحملا ثقيلا يتطلب الحرص الشديد لمنتج مبدع يتميز بالصرامة الشديدة مع نصه ولغته وثيمة تناوله، سيما حين يتم الاشتغال على الترجمة للغة غير لغتك الأم، رغم التخصص الذي لازمني لأكثر من أربعين عاما، ورغم ترجمة العديد من الكتب المترجمة والتي تتوزع بين الشعر والمسرح والرواية والقصص القصيرة والمقالات التي تجاوزت الخمسة عشر كتابا، ومع ذلك وجدت نفسي أمام تجربة من نوع خاص ينبغي ايلاءها الكثير من العناية والحرص وبتوجس شديد، وأفلحت أخيرا بترجمة ديوانين، يعتبرهما الشاعر أسماعيل أكبر، رصيدا حياتيا مهما وغاليا، كان يراهن عليهما ويحرص كل الحرص على أن يكونا في مستوى حلمه الإبداعي، بالإضافة الى العديد من كتاباته المتعددة المشارب والاهتمامات، ورغم أنني لا ادعي الكمال في الوفاء لهذين الديوانين الهامين، يمكنني أن أؤكد أنني بذلت جهدا استثنائيا ووقتا ليس بالهيّن، لكل ديوان امتد وقت ترجمتهما لأكثر من ثلاثة أعوام.
يتعلق الأمر بالديوان الأول الموسوم:
“نصفٌ للفرح… نصفٌ للحزن”
كانتْ قطرةً من مطرٍ
تسكنُ جذعاً قديماً
جاءها تاجرٌ يشتري اخشاباً
فأبتْ…
وكانَ للفأسِ أن يشهدَ للتاجرِ
فضاعتْ قطرةُ المطرِ. “نصف للحزن… نصف للفرح”
يلاحظ القارئ أن نصا كهذا من العسير تصنيفه في خانة الشعر الراهن، لأن الشاعر هنا لا يلتزم بمعايير الكتابة المعروفة في الشعر، إن كان شعرا تفعيليا أو نثرا، إنما هو مزيج بين الكلام المرسل والحس الصوفي بنفَس فلسفي، فالشاعر هنا يريد أن يوصل فكرة لها معنى يخضعها للتأويل المتعدد الوجوه، لهذا فهو يسعى لإيصال الفكرة بغموض قريب لفن المقالة، ولعله اختار هذا الأسلوب البعيد عن التوصيف الشعري، ليختص به هو وحده، فلا هي بالحكاية المباشرة المستمدة من التاريخ بمعانيها الفلسفية، ولا هي صياغة شعرية بتكثيف لغوي كما هو معروف ومتداول، إنما يجمع كل هذه المدلولات ليخرج لنا نصا نستأنس به ونستفيد منه كثيرا، لأنه يدفعنا إلى التأمل والقراءة بوجهها المغاير للخروج عن المألوف، ولعل هذا سبقٌ يُحسب للشاعر ولا يؤاخذ عليه.
لا فرقَ
(بيني) وعقب سيجارةٍ
مرميٍ للنسيانْ
تكنسني الوجوهُ وكلماتُ الفضولِ
اقطعُ الشوارعَ… تقطعني
انتشرُ في الصمتِ
اغوصُ حتى القرارْ. “نصفٌ للحزن… نصفٌ للفرح”
نص معبر وجميل يزاوج بين الشعر والفلسفة بحمولات إنسانية غاية في التأثر والتأثير، بمباغتة لغوية تختزن معاني لمفردات شعرية باهرة.
تكنسني الوجوه وكلمات الفضول… إحساس مؤثر بالانكسار من مبدع يحمل هما إنسانيا كونيا، وكأنه يعبر عن البشر المهمشين بمكابداتهم الموزعة على الصمت والمنتشرين به.
شخصيا أحمل لهذا المبدع تقديرا خاصا لكوني عايشت التجربة بإحساس الشاعر، فوجدته يختزن عشقا صادقا لكل شيء، حيث يدفعك للتفكّر في طقس
الكتابة، وحالة المبدع، ومدى صدقه مع نصه، دونما مؤثرات قد تغلب عليها حالات من التناص لدى العديد من الشعراء، وهذه حالة لا مؤاخذات عليها، لأن القارئ العاشق للنص ولمبدعه ومن خلال قراءاته العديدة، تلتصق في ذهنه وذاكرته تجربة قد تأثر بها، أو صيغ شعرية هام وجدا معها، أو قاموس شعري تمنّى أن يصل لمداركه، فتطفو تلك التجربة التي بقيت تعتمل بوجدانه على نصه الذي يكتب دونما وعي مسبق أو تقصّد مفتعل، وكم واجهتنا مثل هذه الحالات، دفعت بالكثير من المتصيدين، أن نصا كهذا هو منتحلا أو مسروقا أو ما شابه من الاتهامات البعيدة عن دربة الكاتب حتى وإن كان هذا الكاتب يشار له بالبنان لتجربته المتميزة، إنما باعتباره قارئا يتواشج مع لحظات القراءة بوجد وإحساس وعشق نادر، اعتقد أن متابعا من هذا النمط يقينا سيكون كاتبا أمينا لما يقرأ وما يكتب.
ما يعنينا هنا أن الشاعر والكاتب إسماعيل أكبر لا يصنّف أبدا من هذا الفصيل، لما وجدنا في منتجه فرادة في التوظيف تغاير الراهن، إنما يتبين بأنه متشبّع القراءات للتراث القديم، والحكايات الشعبية بأجناسها المختلفة، كالميثولوجيا والدين والسحر والتراث الشعبي وبقراءة جادة وفاطنة، استنبطتُ هذه المعلومات من خلال قراءتي لتجربته في ديوانيه اللذيّن حصل لي شرف ترجمتهما بتكليف منه.
كلُ الشوارعِ واحدةٌ
كلُ الوجوهِ واحدةٌ
اجوبُ المدنَ… ابحثُ عن وجهي المفقودْ
في وجهٍ منسيٍ… او شارعٍ لا يعرفهُ أحدٌ
قدماي تراوحُ منذُ الولادةْ. “نصفٌ للحزن… نصفٌ للفرح”
الشاعر هنا يظل هائما يبحث عن ذاته التي ضاعت في دربكة الفوضى التي أفقدته القدرة على تحسس ذاته الضائعة، ولا سبيل للعثور عليها إلا بحالة التوحّد التي يسعى إليها لتتحول إلى بحث دائم، وهي مغامرة محفوفة بالمخاطر قد يعرّض نفسه إلى مهالك من نوع خاص، لأن من العسير في تفشي هكذا
فوضى، أن تفلح رحلة البحث إلى نتيجة تعيد التوازن والإحساس بآدمية من يسعى إلى بياض الوجود الإنساني وسط هذا الركام من الرثاثة التي استوطنت في تفاصيل حياتنا، وهنا نصل إلى الحقيقة التي تقول بأن الشاعر المبدع يبقى شديد التعلق والإحساس بوجوده الإنساني وكينونته، حيث تتحول حياته إلى جحيم إن هو أحتكم على هذا الشعور المفرط بالوجود. وبالتالي يتحول إلى مرآة حقيقية تعكس الواقع الذي يعيش بقبحه وجماله.
لم أشأ أن أستشهد بالنص الإنجليزي المترجم لإضفاء جمالية أكثر على النصوص في هذا التناول، لأنني سأترك ذلك لقراءة تجمع النص العربي مع ترجمته، لتعم الفائدة لمن يبحث عن نشوة القراءة بالنسبة لمزدوجي اللغة.
في لحظةٍ ما
كطلقةِ قناصٍ محترفٍ
قد يسقطُ العالمُ من عينيكَ عارياً
ويرتدي كلُ من حولكَ
ثوباً من حجرٍ
في لحظةٍ ما
كما الطعنةَ الأخيرةْ
يفقدُ الوهمُ جدوى أن يكونْ
وتبدأ القناعةُ بالاحتضارْ.
توقفت طويلا عند هذا النص الفاتن لما يكتنفه من لبس واشتباك في التوظيف الشعري: لحظة/ طلقة قناص/ يسقط العالم/ في عينيك/……/ وتبدأ القناعة بالاحتضار…
إنه زمن الخسارات الكبرى، زمن الإخفاقات، زمن اللا أمان، زمن الضياع الحقيقي المتلفع بالموت والمحو، لأننا جميعا بانتظار الطعنة الأخيرة، وينتهي كل شيء. إنه نص موحي يتضمن درسا بليغا وحكمةً تبشيريةً لمن يعي أو لا
يعي أهمية وجوده، دونما تغليب نوازع الذات المريضة والملتبسة على تفاصيل الوجود الإنساني، المبتلي بكل صيغ الحقد والكراهية ومحو الآخر، دونما سبب أو معنى لهذا النزوع البهيمي.
نكتفي هنا بالاستطراد عن الديوان الأول الغني بالحكم والمواعظ والدروس بنفَس شعري معبر، لنترك متعة القراءة لما تبقى من نصوص محكمة الصياغات والمعاني، معنىً ومبنىً، للقارئ المتشوق لهذه التجربة، ونعطي للديوان الثاني بدوره ما يستحق، قراءة تحترم التجربة وتسلّط الضوء على النصوص بقراءة عاشقة حقا.
ما يدعو إلى التساؤل فعلا عنوان الديون الثاني الذي يبدو غريبا وبعيدا عن الصياغة البلاغية المتعارف عليها والتي غالبا ما تمنح العمل لفتة يتقصدها المبدع تمثل لوحة بتطريز قد يوافق المحتوى وقد يبتعد عنه. ولكن شاعرنا إسماعيل أكبر يختار عنوانا في غاية الوضوح والبساطة وهو: “أسفي للنائمين”، وقتها ما أن توصلت بالديوان قصد ترجمته، اقترحت على الشاعر تبديله إلى عنوان موحي آخر أكثر شاعرية، فطلب مني أن أبحث عن بديل، لكنني عجزت عن ذلك، لأنني إن فعلت سأبتعد كثيرا عن مضمون النصوص التي لا تعدو كونها تتناول ذات النفَس والنزوع في التبليغ لرسالة يحرص الشاعر أن يوصلها لقارئه دون تدليس أو مراوغة أو تكثيف في المعنى أو تحايل عن القصدية التي يسعى الشاعر ايصالها للمتلقي، وهنا لا ينبغي أن ننتقص من بلاغة اللغة وعمق النصوص، وسيدرك القارئ ما ذهبنا إليه حالة ولوجه إلى عتبات الديوان.
نجتزأ قبل تناولنا لبعض نصوص هذا الديوان قصد إضاءتها بقوة انشدادنا لها، بما قدم له الناقد “غزوان علي ناصر” طالب دكتوراه في الأدب العربي/ الجامعة المستنصرية، بدراسة مطولة وأكاديمية تتناول جوانب مهمة من تجربة الشاعر، اعتمادا على ديوانيه المذكورين آنفاً فيقول:
“مجموعة شعرية صغيرة الحجم ضمت بين دفتيها معاني انسانية كبيرة انتجها الشاعر اسماعيل أكبر محمد من كتاباته ليقدمها الى القارئ بأسلوبٍ سلسٍ وهادئ من دون تعقيدٍ وتنميق.
فعلى صعيد عنوان الديوان (أسفي للنائمين) يحمل هذا المفهوم الصياغي في ذاته صرخة احتجاج على الواقع المزرى الذي يعيشه بعض الاشخاص الذين لا يهتمون لما يجري لأوطانهم، فهم يعيشون في سباتٍ عميق في قصورهم العاجية بعيدين عن هموم الوطن ومشكلاته.
اما على صعيد عناوين القصائد فمعلوم ان العنوان هو العتبة الاولى للدخول الى فهم النص، والملاحظ ان الشاعر لم يضع عناويناً لقصائده التي اشتغل عليها وهي سمة اسلوبية واضحة حتى في ديوانه الاول (نصف للحزن ,.. نصف للفرح) قصدها الشاعر، وهي خطوة تتمتع بالجرأة منه تنطوي على المغامرة ودلالاتٍ مهمة سعى من خلالها ان يثير انتباه المتلقي وحمله على التفكير والخوض في السياق النصي لفهم كنهه، وبالتالي مشاركة المتلقي للمبدع عبر عملية ابداعية قوامها المنتج (المبدع) والمتلقي (المرسل اليه) فيكون المتلقي جزءاً مشاركاً في فهم النص وفكّ شفراته وتذوقه، فضلاً عن دلالته على رفض اشكال التحديد والتموضع الدلالي في التشكيل وكسر دائرة التقاليد.”
يتبين بوضوح ما للمبدع إسماعيل أكبر من دربة بتمكن في اقتناص اليومي الرث وتحويله الى حالات مهذبة وراقية يغلفها وجع خاص وتكتنفها هموم يريد الكاتب من المتلقي مواساته على حجم المكابدة التي تقلقل وجوده، دونما زيغ أو تراجع فيما يعرض بإيمان وثني، لا بإنخطافات لحظية وليدة وقتها بمرورها السريع والفاقع، ولكن بهم انساني حقيقي نابع من صدق المعايشة والمحايثة المرّة مع الأحداث.
وهو يعبر حاجز الخمسين
مازال يحمل باقات من السؤال
يقول حيناً
يسكت حيناً
ويبقى سؤال كبير
ينطقه الجميع خلف الكلمات
ويسأله طفل صغير ببساطة
أبتي … لماذا نموت؟
ويبقى هذا السؤال
نهايات كل الأسئلة…
لعلنا لا نبتعد كثيرا لنقول أن الشاعر يسقط هذا النص على نفسه ليتبين بوضوح مساحة الوجع الذي يكابده، وحرقة الأسئلة التي تعتمل بداخله، ليطرح لنا سؤالا متداخلا ومتشابكا، بنفَس وجودي حارق ومقلق، وكأننا بالشاعر وهو يطرح مثل هكذا سؤال وجودي ليس بالجديد، بل رافق الانسان منذ وجوده وبداية القلق الوجودي بفطرته وعفويته، وكما أسماها الباحث فراس السواح “مغامرة العقل الأولى” لأن الانسان بطبعه ميّال للبحث والاستقصاء والكشف، تدرّج هذا الجهد الإنساني المشروع والأساسي لكونه يشكّل تحديا وجوديا منذ عرفت الخليقة ظهور الانسان البدائي، ليبدأ رحلة الكشف عن كل ما يحيط به، مما ساعده على إخضاع كل أحاسيسه إلى تمارين ذهنية لم يكن يتوقع أنه سيصل إلى ما نحن عليه وفيه، لتنتهي رحلة البحث الشاقة إلى سؤال النهايات الحتمي:
ما الموت؟ ولماذا نموت؟ ولماذا نترك هذه الإنجازات الكبرى لمن يلينا؟ وما أدرانا أنه سوف لن يعبث بها؟
هذه الأسئلة كلها متمثلة بالسؤال العريض والمخيف، لماذا نموت، يطرحه طفل هش التفكير على أبيه، قناعة منه رغم يفاعته، بأن أباه هو معلمه الأول العارف ببواطن الأمور. ولم يختر الشاعر علاقة التلميذ بأستاذه أو المريد بفيلسوفه، إنما العلاقة الوشيجة بين الطفل وأبيه، بنوازع جينية قد لا يعيها الطرفان.
هنا يتضح بشكل جلي تمكّن الكاتب في اقتناص حالات فكرية فلسفية غاية في الفطنة، ليضع لنا نواميس جديدة من العلاقات التي هي أصلا موجودة، ولكنه يتقصد أن يضعها على مشرحة القراءة الجادة بمعانيها السامية.
نص فلسفي آخر يقول:
للإنسان حكايات وحكايات
مكتوبة بالدم
وبعضها بالدموع
وأخريات بفرح كاذب
ويغلق على نفسه في زمن التواصل
كل الصرخات والآهات
ويصر ان يكون
ذلك الكهفي القديم
في عصر يؤمن بالعلم
ولا يدرك الرحمة…
إنه استعراض لمحن الوجود الإنساني الذي وبمرور الوقت يتحول البشر على كائنات حسية لا أبالية بما يجري، لا بعفوية الوجود وفطرته ولكن بالانزواء الى الذات الأنانية بتضخمها وتغليب الأنا التي تتحول الى حالة مرضية، لينفصل عما يدور حوله من كوارث تحيط به وكأنها لا تعنيه، لسبب أن لهيبها لم يصله بعد، اليس هذا ما نعانيه ونكابده ويقضّ هدأتنا ووجودنا ليصل في أحايين كثيرة إلى مصادرة حيواتنا لأتفه الأسباب، دونما حراك أو إحساس بدعم الانسان لأخيه الانسان. وهنا وبلغة الواثق نقول ان الشاعر محق باختياره لعنوان المجموعة “اسفي للنائمين”، لأنه تقصّدْ مدرك ومخطط له، ولا تعنيه هنا فذلكة الصياغات بقدر ما يهمه إيصال الفكرة، مما يدعونا لاحترام هذا الاختيار النبه.
ايها الممتزج بالطين حد السفاهة
منذور انت للتعب واليقظة
والعالم حولك
حلم جميل او كابوس لا يطاق
وانت … انت
من سيبدأ الرحلة يوماً
يترك اشلاءه الارضية عنوة
ويُحلّق صوب العالم الكبير…
من هذا الممتزج بالطين؟ يقينا أن الشاعر لا يعني راهن العيش، بل يوجه رسالة للإنسان الذي خُلق من الطين منذ حكاية الخلق الأولى، وهذا العمر الممتد لملايين السنين يختاره الشاعر بلحظة التخاطب لراهن معاش لإنسان قد يكون قد نسيّ أنه مخلوق من طين وسيعود إليه، فلا ينبغي أن ينسى ماهية
وجوده وأن يتّعظ من نوازل الوقت ليأخذ من جمال الحياة وقبحها، ولا ينبغي له أن يضيع في دوامة الملذات والخطايا، لأنه شاء أم أبى بحاجة إلى بني جنسه في السّراء والضرّاء.
قد لا نكون أوفينا الديوانين حقهما من الدراسة والمتابعة والنبش في دهاليز النص، وهذه هي مهمة القارئ العاشق للعمل الفارز بعيدا عن الذاتية المفرطة واغفال كلمات الإشادة التي أعدها شخصيا انصافا للكاتب وجهده وبوفاء نادر لإخراج مثل هكذا نصوص.
أظن أخيرا أنه لا بد من الاستشهاد بمقدمة المترجم للديوان الثاني، لتكثيف الإضاءة وتقريب القارئ من العمل.
مقدمة المترجم:
هذا هو التكليف الثاني بعد أن شرّفني الشاعر إسماعيل أكبر محمد بترجمة ديوانه الأول “نصف للحزن… نصف للفرح” الذي لاقى قبولا طيبا من الأصدقاء، شعراء ومتابعين.
كانت رحلة الإبحار في عالمه الشعري محفوفة بكثير من المحاذير، تغاير تماما ما سبق لي وأن أنجزت تراجم أخرى لشعراء أحبة منهم على سبيل الذكر: عدنان الصائغ، خزعل الماجدي، وديع العبيدي، باسم فرات وغيرهم الكثير.
لكنني كنت شديد التوجس أمام هذه التجربة، لفرادتها واختلافها وكيفية صياغة النص الشعري الذي هو بمثابة نصوص يغلب عليها النفَس الصوفي المسكون بالوعظ والوصايا وكشف العورات وحلول بدائل يرتئيها الشاعر دون غيره من منتجي نص شعري راهن، بمواصفات لا تغريب ولا ابتعاد عن السائد الشعري في قصيدة النثر. وكأني به يريد أن يبلغنا أنه شاعر رسالة، لا أداة لتغيير المثالب لديه غير الكلمة، سلاحه الوحيد لتعرية وفضح المستور أو المعلن بتحدٍ لافت وبهي.
ما يميز حالة الكتابة لدى الشاعر إسماعيل أكبر، هي حالة التمرد على منابع الإبداع الشعري، والمتعارف عليها والتي تشكل روافد العمل وأصوله ومرجعياته والحكم عليها، لكنما هذا النمط المشاكس الذي يأخذ أحيانا مديات متعددة الهوامش الشعرية وتكويناتها، لا بمعنى التسطيح والكتابة غير
المسؤولة، إنما التفرد بحلة إبداعية لا تخص سواه من شعراء نتواشج معهم بمواصفات وصيغ ولغة معجمية وخيالات وصور ومنجز، قد نتفق أو نختلف معهم، وقد يطربوننا أو ننفر منهم.
من هنا يتفرد الشاعر إسماعيل أكبر بحالاته الشعرية ليختط لنفسه طريقا ودربة ولغة ووصايا ومواعظ، بنفَس شعري شديد المراس والتنبه. نصوصه تعج بالألم والتوجع والاحساس بالمحاصرة والأسف على ما مر ويمر على تفاصيل الشاعر وكينونته القلقة ووجوده الكوني الغائر الإحساس بالمرارة، لا يبتعد كثيرا عن فواجع تضرب غوصا في ذاته الكسيرة والمحبطة وأبناء جلدته ممن غزاهم ذات البلاء، دون أن نغفل موسيقاه الموجعة التي تجترح من دواخله المتعبة، بتوليفة معجمية حافلة بالصور والبناء النصي المتماسك، لغة وتوظيفا وهموما صادقة تتطلب أوجه مختلفة للفهم والقراءة المتأنية.
سعيد بهذا التكليف، الذي أعدّه تشريفا من شاعر يقاتل بكل ممكناته ليبقى لصيقا لبهاء الشعر، ويصرّ على أن يظل هذا الشعر سر كينونته، وبهاء وجوده بأحاسيس تغزو وجدان القارئ لتدفعه قسرا لمعايشة الشاعر ذات الشعور بالفجيعة، بسعي حثيث لا شائبة فيه، لانفتاحه على العالم الأرحب من خلال بناء ذاته الشعرية الحافلة بالكثير من التغريدات الشعرية الباذخة لعطاء قادم.
له منا كل التوفيق

أحدث المقالات

أحدث المقالات