ليس هناك إنساناً كاملاً، ولا يوجد أحد قد وصل أو يوصل درجة الكمال، وقد قيل: إن الكمال لله وحده، حتى العلماء وعظماء الفلاسفة أمثال فيثاغوس، هرقليطس افلاطون ارسطو، جاليلو اديسون أو انشتاين وغير هؤلاء جميعاً، قالوا عن انفسهم: إنهم عظماء، بل حتى الذين نراهم نحن انهم عظماء، نجدهم قمة في التواضع ونكران الذات وسمو النفس والخلق الرفيع، فمثلاً سألوا سقراط ما معناه، عن مدى علمه وقد شغفوا به، فقال لهم: إنني لا أعرف غير شيء واحد هو أنني لا أعرف شيء!، وهذه لا يقولها الا نبي.
أنا ولدتُ في العراق من أبوين عراقيين فطبيعي أن أكون عراقياً، أمي وأبي مسلمين فطبيعي أن أكون مسلماً، وكانت ولادتي في منطقة شيعية فلابد أن أكون شيعياً، (ولو كنت قد ولدت في الصين فلربما أنا الآن بوذياً) وكسبت كل هذا بالوراثة، فالإنسان يورث حتى الامراض من والديه وخصوصاً من الاب، وقد ورثت أيضاً من أبي مرض الكليتين، وامراض أخرى.
والمجتمع أيضاً له دور في التربية والسلوك، كذلك المدرسة والرفقاء والاصدقاء لهم نفس الدور، فأحياناً يورث الطفل الافعال السيئة واحياناً الافعال الحميدة، بحسب البيئة والمجتمع وسلوك الناس الذين يعايشهم ويسايرهم ويتربى بينهم.
وكل هذه السلوكيات التي فرضت نفسها عليّ قد أثرت في نفسيتي وتربيتي وسلوكي اليومي؛ فالمدينة التي عشت فيها وتربيت فيها حتى نضج عودي وأشتد ساعدي كانت مدينة شعبية، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وموغلة بالفقر والسذاجة والبساطة وتسودها أيضا الجهالة، أضافة الى طيبة ناسها البسطاء الاميون، والشريرون العدائيون معاً، يعني مدينة تناقض نفسها بنفسها، فهي مدينة عجيبة، لكن ميزتها أنها في وسط بغداد، وأعني ما أقول.
وقد نشأت على طبائع هذه المدينة وأخذت سلوكيات أنُاسها، لكنني لم أكن شريراً ولا عدائياً، وهذا ليس مدحاً لنفسي، وإنما غيري من قال هذا من الاصدقاء الذي عايشتهم من خارج مدينتي، هم من قال هذا بحقي.
في هذا المدينة قرأت الكتب الدينية المذهبية، وتأثرت بها أشد التأثر، وكنت لا أعتقد ثمة حقيقة تضاهي تلك المعلومة الثقافية الدينية التي تعلمتها من تلك الكتب، واصبحت متطرفاً، وانا لا أعلم ذلك، وإنما علمت ذلك فيما بعد، أي بعد ثلاثون عاماً أو تزيد، وكنت أمارس تطرفي من خلال الكلام والحديث، وربما كنت أشتم والعن واستهين برجالات تاريخية تفصل بيني وبينهم أربعة عشر قرناً، وأبكي على أنُاس تفصلني عنهم بعد تلك السنوات التي أشتم بها تلك الشخصيات.
واليوم، حينما أتذكر تلك الايام والسنوات أضحك من نفسي وأبكي على عقليتك تلك، وسذاجتي تلك، وسطحيتي تلك، وغبائي أيضاً، وأتذكر المقولة التي تقول: “العلم جهل والنور ظلام” ولا أعرف من أين جاءت هذه المقولة ومن هو قائلها، لكنها تنطبق عليّ جملة وتفصيلاً.
وأعتقد الآن أنْ لا غضاضة عليّ لأنني وقتها كنت جاهلاً، على بصري غشاوة من ضلال، وقد ازُيحت بفضل تحركي نحو التطلّع والبحث المتواصل الى هذه الساعة وراء الحقيقة، وعدم اطمئناني الى الثقافة التي تربيت عليها في مدينتي التي عشت فيها منذ نعومة اظفاري، وأشيد بفضل هذا التحوّل الى القراءة المتنوعة والمختلفة لمختلف العلوم، وأذكر منها: الفلسفة الادب العربي والعالمي الحديث، علم النفس، علم التربية، علم الاخلاق، السير الذاتية لكبار الشخصيات العربية والعالمية، علم التصوف والعرفان، التحليل النفسي، نقد الفكر الديني، كتب فلسفة الاديان، وغير ذلك ولمدة ثلاثون عاماً ونيف.
فليس نقصاً بالإنسان حينما يتعلم ويفكر ويبحث، ومن ثم يغير أفكاره القديمة البالية، إذ يصل الى الحقيقة الناصعة ويعرض عن الجاهلية المطبقة، إنما العيب والمثلبة على الذين يركنون الى ما تعلموه في سنوات عمرهم الاولى، وهم بعد لا يعون شيئاً من الثقافة وأمور الحياة الاخرى، ولم يبحوا، ولم ينقبوا، ولم يشاوروا الناس المتعلمين الذين سبقوهم في الفكر والمعرفة، وفهموا سر الحياة، وخصوصاً المعرفة العصرية والانسانية: وعلوم العصر، وظلوا في سجن تلك المعرفة سائرون في دهاليزها المظلمة لا يعون شيئاً، ويتصورون أن معرفتهم تلك هي الحقيقة وسواها الجهل والضلال. وأعتقد أنني في ثقافتي البالية كنت متطرفاً.