18 ديسمبر، 2024 5:57 م

حين حل الجلبي أزمة السكن بست كلمات

حين حل الجلبي أزمة السكن بست كلمات

حقائق من آخر اجتماع قبل رحيله
منذ أشهر وانا انتظر ذكرى رحيل العملاق التي تحل بعد ايام قلائل لأكتب عنه مرة أخرى، بعد ان كتبت سابقاً عن رؤيته تجاه القروض الخارجية وخاصة قرض البنك الدولي الذي نعاني من وطأته ومن ويلات شروطه الآن وسنبقى نعاني لأننا ما استمعنا للدكتور الجلبي، أو بالأحرى سمعنا ووعينا ولم نستجب، وهذه المرة وفي شهادة للتاريخ صادف اني كنت قريباً من حدثها، اكتب اليكم لأتحدث عن آخر ما قدمه للعراق قبل يومين من رحيله، وكيف بــ ( ست كلمات ) فقط كان سيحل أزمة السكن الخانقة المستمرة منذ عقود، تلك الأزمة التي تفاقمت وتضاعفت وتغولت لأنها لم تجد من يلجمها، وعجزت حكومات متتالية عن ايجاد مخرج ولو لجزء يسير منها، أو انتاج افكار تخرج عما تعود عليه شعبنا المسكين من جعجعات عن مبادرات اسكان وهمية وتوزيع لسندات عقارية انتخابية، فتحول حلم المواطن بامتلاك وطن داخل وطنه الى رفسة بغل قد يكون سياسياً أو قائداً او صانع قرار في بلدي!

في قرص سي دي اصدرته وزارة الاعمار والاسكان قبل سنوات، يحوي فيلماً تستعرض فيه منجزاتها، مع عزف موسيقي حماسي ثوري متصاعد لم يتوقف في الخلفية طيلة الخمس عشرة دقيقة التي هي مدة الفيلم قبل ختامه ختام المنتصرين بالنشيد الوطني !، ومن باب طبال وعرس ابنه، تتحدث الوزارة عن منجزاتها العملاقة بشكل لو استعرضته لكم كاملاً وبطريقتهم لربما كان رد فعلكم هو كسر شاشة الجهاز الذي تقرؤون فيه مقالي هذا ! ولكني سأنقل لحضراتكم نموذجاً واحداً يكفي لإيصال هذا الشعور الحانق، وهو افتخار الوزارة بأنها وعلى مدى “ثلاث سنوات من عمر حكومة الوحدة الوطنية” كما يقول الفيلم نصاً، انجزت للعاصمة التي عدد سكانها حوالي ثمانية ملايين نسمة (288) وحدة سكنية …!! بل الأكثر من هذا تعساً افتخارها بأن ذلك المجمع السكني يتوفر فيه ماء ومجاري وغرفة للحارس …!! ركزوا على الرقم 288 الذي انجز لبغداد في ثلاث سنوات أي بواقع 96 وحدة سكنية سنوياً، واستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم وبسملوا وحوقلوا وانتقلوا معي الى الفقرة التالية.

في مثل هذه الايام قبل ثلاث سنوات عقد آخر اجتماع برئاسة الجلبي، وكان مخصصاً لدراسة موضوع الاسكان، استعرض جمع من الافاضل مشكلة السكن بل أزمتها العميقة والخطيرة، وبين الجلبي انه استضاف سابقاً الموظفين المتبقين من هيأة الاسكان العراقية القديمة والتي عملت منذ عام 1976 وحتى 1998 وسألهم عن معدل انجازهم السنوي من الوحدات السكنية في ذلك الوقت، فأجابوا بإنجازهم ما معدله ( 4500 ) وحدة سكنية سنوياً، أي انهم طيلة سنوات عملهم الاثنتين والعشرين لم يستطيعوا انجاز مائة الف مسكن، في حين ان معدل النمو السكاني في العراق يبلغ حوالي مليون نسمة سنوياً، واذا افترضنا ان معدل عدد افراد الاسرة العراقية هو ستة اشخاص، فيعني هذا الحاجة الى حوالي (170.000) وحدة سكنية سنوياً بالإضافة الى نقص متراكم سابق يبلغ ثلاثة ملايين مسكن.

ثم استعرض الجلبي في الاجتماع بأسى كبير والم عميق وضع السكان في مدينة الصدر بطريقة حسابية واضحة وبسيطة، مبيناً ان مساحة مدينة الصدر تبلغ تقريباً 32.5 كيلو متراً مربعاً من اجمالي مساحة بغداد البالغة 687 كيلو متر مربع، ويعني هذا ان مساحتها تمثل حوالي خمسة بالمائة فقط من المساحة الكلية في حين ان عدد ساكنيها يبلغ اربع ملايين نسمة، أي ان نصف سكان بغداد يسكنون في خمسة بالمائة فقط من مساحتها، وبعد مجموعة من العمليات الحسابية قام بها في ذلك الاجتماع اهمها ضرب عدد القطاعات في مدينة الصدر في عدد الوحدات في القطاع الواحد في مساحة الوحدة الواحدة وتقسيم الاجمالي على عدد سكانها يصل بنا الى ان كل مواطن لديه اقل من ثلاثة امتار فقط للسكن … !! وللتأكد جربوا بأنفسكم نتيجة ضرب 80 قطاع في ألف بيت بمساحة 144 متراً ثم قسموا الناتج على عدد سكان مدينة الصدر البالغ اربعة ملايين، وستكتشفون حينها النتيجة المحزنة.

وبلغة الارقام التي يحمل فيها الدكتوراه في فلسفة الرياضيات من جامعة شيكاغو، بين الجلبي ان المشكلة ليست مشكلة بناء لا ارضاً ولا مواد، وانما هي مشكلة ثمن المسكن، وفي التفاتة خطيرة وضح ذلك بمثال قال فيه لنفترض ان ثمن مسكن بسيط هو ستون مليون دينار، ولنفترض تقسيط هذا الثمن على ثلاثين سنة، سيكون على المواطن دفع مبلغ حوالي 167 ألف دينار شهرياً، وهذا اقل من معدل ادنى الايجارات التي يدفعها المواطنون في العادة، ولكن الخطير في الموضوع والذي يغفل عنه الجميع هو الفائدة المصرفية، التي سترفع هذا القسط البسيط الى ما يقارب 800 ألف دينار ..!! وهنا طبعاً يقصد نظام الفائدة التراكمية الذي تعمل به المصارف، وهو باختصار تكرار استيفاء الفائدة سنوياً على المتبقي من أصل المبلغ، ذلك النمط الخطير من الفوائد التي لا يشعر بها المواطن في حين انها حقيقة قائمة، والمبلغ الناتج من اصل القرض مضافاً اليه الفوائد في المحصلة النهائية هو ما يستحيل على المواطن دفعه أو تحمله، وبالتالي استحالة حل أزمة السكن اذا ما استمرت ادارة البلد ومعالجة ازماته بنفس العقليات البائسة التي تتوارثها الحكومات المتعاقبة، صحيح ان الدولة تمتلك الأرض، الا انها تفتقر الى التخطيط، وهي فعلياً لا تستطيع ولا تمتلك القدرة لبناء او تمويل بناء ملايين الوحدات السكنية بين ليلة وضحاها وهو ما يبدو طبعاً اقرب الى الخيال او المستحيل لأنه يعني بناء وطن جديد بالكامل، الا ان الشركات العملاقة والمصارف العالمية تستطيع، وبإمكانها البناء والتمويل بل تتمنى، وبدل الشركة والمصرف هناك مئات بل الآف، إذن اين تكمن المشكلة !؟

المشكلة ذات شقين، الأول هو الفائدة التي تطرقنا اليها قبل قليل، والثاني هو الثقة في سداد الثمن وضمان حق الشركة العقارية والمصرف الممول، وللتوضيح دعونا نفترض ان شركة عقارية عالمية ما وبدعم من مصرف ما، اقاما مشروعاً لتمليك المواطن مسكناً بالتقسيط، وحتى لو افترضنا اقامة المشروع دون دفع الرشاوى والاتاوات للمتنفذين، فالإجراءات القانونية والمالية والادارية التي يتطلبها ضمان تسديد المواطن وضمان حقوق الشركة هي اجراءات طويلة ومعقدة وسلسلة متشابكة مملة من اجراءات المحاكم والدوائر، وغالباً لا يصلون الى نتيجة تضمن حقوقهم، وبالتالي يؤدي هذا الى عزوف أي شركة عن الاستثمار في قطاع الاسكان في العراق ونفور أي مصرف من تمويل مشاريع الاسكان وخاصة طويلة الأمد، ومع عجز الدولة عن تدارك ما فات، ستبقى المشكلة قائمة ومستفحلة لدرجة السكن في اماكن تفتقر لأدنى متطلبات العيش الكريم، وهذا ما نراه منتشراً في كل مكان من وطننا للأسف، والعلاج ليس اقل من توفير السكن اللائق لملايين المواطنين في مدن عصرية جديدة، فما هو الحل؟

الحل في فكر الدكتور الجلبي بسيط لدرجة الذهول، فليس اكثر من (ست كلمات) فقط كافية تماماً لإنهاء أزمة السكن المرعبة، وهي قيام الدولة بــ (توفير الأرض، وكفالة المواطن، وتحمل الفائدة)، اما توفير الارض فلا أسهل منه على الدولة التي تمتلك فعلياً 95 % من ارض الوطن، واما كفالة المواطن امام المصارف ضماناً لحق الشركات فهو من ابسط حقوق المواطن ليشعر بمواطنته اسوة بكل خلق الله، وهو واجب الدولة ولن يكلفها سوى تطبيق القوانين بصدق وحرص وبضمان نفس العقار، واما تحمل الفائدة المصرفية نيابة عن المواطن فيكلف الدولة في حالة بناء مئتي ألف وحدة سكنية في السنة حوالي ترليون دينار أي اقل من مليار دولار أي حوالي 1% فقط من موازنة العراق، وهذا العدد من المساكن يعني في المعدل توفير السكن لمليون وربع المليون انسان سنوياً، ولو افترضنا حاجة كل مسكن من المائتي ألف الى عشرة أشخاص فقط لبناءه فهذا يعني ايجاد فرص عمل لمليوني مواطن، فتأملوا.

ولتنفيذ هذا الحلم واختصار الحلقات الزائدة، يدعم الجلبي فكرة اعادة تشكيل مجلس الاعمار ليتولى كل ما سبق، فيكون هو الجهة الراعية والضامنة وحلقة الوصل بين الاطراف الثلاثة المستفيدة المواطن والمصرف والشركة، وعلى مسؤولينا بعد اخراج رؤوسهم من الرمال الاعتراف بأن الدولة يستحيل عليها حل ازمة تتفاقم منذ عشرات السنين، والاعتراف بأن صندوق الاسكان ذو الميزانية المحدودة يستحيل عليه تمويل بناء ملايين الوحدات السكنية، وقد نشرت وسائل الاعلام قبل ايام مسودة موازنة الدولة لعام 2019، فبحثت فيها عن المبلغ المخصص لصندوق الاسكان فكان اثنان وعشرون مليار دينار تقريباً، وهذا المبلغ لو قسمناه على ( 50.000.000 ) خمسون مليون لكل مواطن فلن يستفيد منه سوى ( 440 ) شخصاُ فقط، وحتى لو افترضنا فرضاً خيالياً ان المخصص للصندوق مليار دولار، فسوف يلبي في المعدل احتياجات بناء عشرين الف مسكن، في حين يمكن تحقيق ما فوق الخيال بنفس هذا المليار فيما لو دفعته الحكومة للمصارف والشركات العالمية كــ (نسبة فائدة تتحملها الدولة نيابة عن المواطن)، وسيكون كافياً لتمويل بناء مئتي ألف مسكن بأرقى المواصفات والتصاميم العالمية فلاحظوا الفرق، وتأملوا في ضرورة ايجاد حلول غير تقليدية لكسر حاجز المستحيل، فقط نحتاج الى رؤية مختلفة وصدق النوايا وقبل هذا وذاك الشعور بالانتماء الى وطن اسمه العراق.

تخيل معي ايها العراقي ان تذهب الى مشروع سكني من عشرات او مئات المشاريع، وتتدلل على الشركات التي ستتنافس حينها على تقديم أرقى وأجمل التصاميم العالمية وأفضل الخدمات بأقل الاسعار، تخيلوا معي حال المواطن الذي سيتحول فجأة من باحث عن مأوى في عشوائيات تفتقر لأدنى متطلبات العيش، أو في أفضل حالاته حالماً بخمسين متراً في الزراعي! تخيلوا ان يتحول هذا الانسان الى مواطن حقيقي يشعر بآدميته وحقه في الوطن ويتحول الى مالك يتجول متبختراً بين شركات العقار التي يتراكض مندوبوها امامه متملقين وهم يعرضون عليه مختلف الوحدات السكنية، ولا يكلف هذا الحلم بعراق متقدم مزدهر سوى الكلمات الست التي وضعها الجلبي في خطته لحل أزمة السكن، 1. توفير الارض، 2. كفالة المواطن، 3. تحمل الفائدة، وهكذا فخلال سنوات معدودة وبإعادة توجيه اموال مواطنينا وتصويب مسارها من دفع بدلات الايجار الى دفع اقساط الملك الصرف، ودون ان تدفع الدولة سوى فرق الفائدة، سيكون لدينا وطن جديد بأموال المصارف وايادي الشركات العالمية العملاقة، وهنا يكمن الاختلاف في نمط التفكير والارادة والوطنية ما بين كفاءات شيكاغو وزنجار الوطن.