23 ديسمبر، 2024 4:00 م

حين تقع في غرام مدينة

حين تقع في غرام مدينة

(مقهى بغداد) هو اسم فلم ألماني أمريكي  سبق وان انتج عام سبعة وثمانين ورشح لنيل احدى جوائز الاوسكار وحصد جوائز اخرى عديدة.. يتحدث الفلم عن فندق ناء تدور فيه احداث كوميدية تعالج الجانب الانساني في بين مجموعة من النزلاء. تحولت قصة الفلم الى مسلسل امريكي انتج عام تسعين بنفس العنوان  (مقهى بغداد) تم تصويره في مدينة اسمها بغداد تقع في كالفورنيا.

هذه المدينة تأسست عام 1883 وكانت مزدهرة خلال الفترة التي شاع فيها استخدام طرق السكك الحديد في امريكا..لكنها شهدت افولا ما بعد ان تجاوزتها طرق السيارات السريعة الرئيسية الرابطة بين  الولايات الامريكية، وهي طرق افعوانية مهولة تمتد لآلاف الكيلومترت، غير ان المدينة التي وهبت نفسها اسم بغداد الأزل لم تزل باقية حتى الساعة هناك.. حالها حال اي مدينة صغيرة من مدن كثيرة تتناثر في كل أصقاع هذه القارة العجيبة، مدينة صغيرة لإسم كبير، مهيب نابت مثل خالٍ اسمر في جسد التأريخ.

بغداد (الامريكية) تأسست قبل نحو قرن ونصف في اقاصي الغرب الامريكي ولم استطع ان اتوصل الى السبب في تسميتها باسم المدينة التي وقعنا في غرامها واسكرنا عطرها وضوعها المضمخ بأريج دجلة وبساتين البرتقال وأشجار التكي والتوث والصفصاف.،اسكرتني ذكرى بغداد  وأنا المجبول بفقدانها المزمن.. فاتذكرها ونافذتي تطل في المشرق الامريكي على أكوام من الثلج المصهور بلواعج الذكريات وهول الفراق وذائقة المسك والعنبر.

مع تناثر ندف الثلج وتراشق الاطفال المتدثرين به لم تدم احلام يقظتي طويلا حين عرفت ان مدينة بغداد الامريكية تعتبر من اكثر المناطق جفافا على مستوى الولايات المتحدة!! حيث سجلت عام 1912 اعلى معدل جفاف على مستوى القارة، اذ لم يهطل المطر فيها طوال 767 يوما وهو  مستوى الجفاف الاطول في تأريخ امريكا الشمالية!! اخذت افكر..لماذا اسماها من اعطاها الاسم بغداد مادامت على هذا الجفاف وبغداد هي الواحة الخضراء وإلاهة الامطار الهادئة الجذلى منذ تأريخ قصي باهج وضارب في اعماق الحضارة الانسانية وفي ضمير الثقافة البشرية بأسرها؟؟. قد يكون صاحب الاسم هو من اوائل المهاجرين العراقيين الى امريكا.. افتقدها وأضناه عشقها في صحراء شاسعة محرقة وسط مجاميع من رعاة البقر وبقايا قبائل الهنود الحمر التي لم تزل حينها تحيا في مناطق نفوذها؟!. او ربما أسماها بغداد مواطن امريكي سبق وان زار بغداد قبل مايقارب القرنين  من الزمان وأراد ان يتبرك بالاسم فعسى ان تهطل الامطار في تلك البقعة الجافة..هذا الشيء موجود هنا وشائع..هنا تجد مدنا قصية بأسماء صينية ويابانية واوربية ومن كل بقاع العالم..حيث يحمل المهاجرون الى امريكا معهم مدنهم وألوانهم واحزانهم الى موطنهم الجديد.. فيسمون الشوارع باسماء تتردد في أجراس الذكريات مثل موسيقى حزينة قاصمة تفتت القلوب.. القانون في بعض الولايات يسمح بذلك..مثلا لو كنت تملك مزرعة!! او عقارا في الريف وكان هناك حاجة لأن تعبّد البلدية شارعا من المنزل الى الشارع الرئيسي، واذا كان الشارع يقع ضمن املاكك..فلك الحق في ان تسميه بما تريد ويتم اعتماد الاسم رسميا في الخرائط والمراسلات والبريد وما الى ذلك..يمكن ان تسميه باسم أبنك..او مدينة تحبها..او أي شيء.. انا مثلا، لو اصبحت عندي هنا مزرعة (بعد قرنين من الزمن) ساسمي الشارع فيها مثلا: شارع (الروز )، وهو اسم الساقية البائسة الضحلة التي تم نفيي اليها في أقاصي مدينة بلدروز في ديالى، حيث رموا بي هناك معلما في احدى المدارس النائية قرب مرقد (البجلي) عند الجزيرة القاحلة الممتدة الى الحدود الايرانية؟! فبعد ان اكملت دراستي في معهد الفنون عام ثمانين وجدت نفسي مجبرا مع آلاف المعلمين للانخراط في سلك التعليم هربا من سعير الحرب التي نشبت في دوحات بلادنا الجميلة فجأة آنذاك .. عند الساقية تلك عرفت اول الدموع بسبب بعادي عن بغداد..عند ذلك الجدول الطيني تعلمت اول درس في غرام مدينة، الغرام الذي مازال يدب في كياني دبيب طبول الهنود الحمر، وحفيف اصابع عازفي الابواق في نوادي الجاز وموسيقى البلوز في (باب الشرقي ديترويت). منذ ذلك الوقت  وعند الساقية (روز) تلك التي لابد انها جفّت الان بدأت قصة نفيي القسري عن المدينة التي عشقتها، وأذهلني عشقها حتى الوله.

أعفيكم سادتي الساعة من قصة الثلاث سنوات التي قضيتها عند ضفاف حورية الماء (روز)، فقد كنا اذا اردنا السباحة فيها نخرج من مياهها ملطخين بالطين الضحل فنخرج من الماء للننظف انفسنا وياللعجب..لكن ذاك طين بلادي وهو أرق من طين (هاواي) وطمي نهر (اوهايو) الذي يبدو وكأنه قطعة من الجنة، أو براري غرب نيويورك التي يثقل ويعتم فيها اللون الاخضر حتى يصبح العالم كله من حولك..أغنية خضراء!.. بلى.. فطين بلادي ارق وأجمل..وبلادي وإن جارت علي عزيزة، وأهلي وإن ضنوا عليّ كرامُ.

كانت الحرب مع ايران قد اشتعلت آنذاك.. وبدأت أوائل جثامين الجنود القتلى تصل الى أحياء المدن العراقية، وكان لوجود عزاء قتيل حرب عند اي زقاق في ذلك الزمن  وقعا كارثيا له اثر شديد الأثر على العراقيين المذهولين بفداحة تلك الحرب المقيتة البليدة. ثم بعد سنين قرب (روز) الجميلة لم يكن هناك ثمة مفر من الذهاب الى الحرب.. الذهاب الى الحرب او الى غياهب السجون، الذهاب الى السجون او الى غياهب الحرب.. فذهبت الى الحرب جنديا لسنوات طويلة استفّ مع الجند المنهكين رمال العمارة والبصرة لاموت كل يوم بعيدا عن بغداد، بل حتى يعيدا عن اي غصن او شبح شجرة.. وها انذا منذ مستهل التسعينات بعيد كذلك عن المدينة التي وقعت في غرامها..بعيد عنها ايضا منذ اكثر من خمسة عشر عام .. وكأن بغداد لا تكون الى ببعدي عنها.. وكأنني لا اكون الا بعيدا عنها. وكأن غرامي بوطني كان غراما من جانب واحد!!. وربما لبعدي المريع ذاك عن الاشجار بين رمال الحرب ما جعلني اليوم اترع من جمال الاشجار في هذه البلاد، وكأني أخاف من ان افقدها من جديد.

لقد استكانت قوة الايجاد والوجود في داخلي.. استنكت الى حقيقة ان لنا ان نحلم مانشاء.. بل نحلم ولا نتوقف عن الحلم .. وفي ذات الوقت نضع في حسباننا ان احلامنا  يمكن ان لا تتحقق ابدا..وان ذلك لاينبغي ان يمنعنا من مواصلة الحلم.. لقد جلست بغداد هنلك عبر المحيطات في خدرها الأخضر، تفكربأبنائها الحالمين الذين كان قدرهم ان يلوذوا بالمدن الغريبة لكي لايرونها تتألم، تقلب الفِكر بكبريائها الباهرة .. وكبرياء المدينة يرسم على الدوام اقدار عاشقيها.. سأشد الرحال يوما الى بغداد الكاليفورنية.. لأن حلم بغداد العراقية لم يزل صعب المنال، سأمضي غربا الى هناك..جارا خلفي أحلامي التي لم تتحقق..وأحلامي التي سأحلم بها لاحقا.. ولن تتحقق لاحقا كذلك.. حاملا معي الى تلك البقعة الجافة في الغرب الامريكي غيوما من الرصافة، وباقات ورد من الوزيرية التي اشم عبيرها كل يوم حتى الساعة.. ففي ايام الربيع كان المرور بالوزيرية عند اشجارها المزهرة يبدو مثل المرور جنب قارورة عطر فواحة، سأجلس في مقهى بغداد الامريكي، وانظر من النافذة لأرى شارع السعدون اذ تصطف فيه المقاهي والخمارات جنبا الى جنب اصطفاف احجار دومينو  عاجية ..وسأبقى واقعا في غرام مدينتي..الى الابد.

* كاتب عراقي مقيم في أميركا
[email protected]