في قلب المجتمع العراقي، تتجذر أزمة ثقة عميقة بين مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة، حيث بات الشك هو القاعدة، والرواية الرسمية استثناءً لا يُصدق بسهولة. تجلت هذه الأزمة بشكل صارخ في حادثة وفاة الطبيبة العراقية الدكتورة بان، رحمها الله، التي عُرفت بإنسانيتها وعلمها، فتحولت من مأساة شخصية إلى قضية رأي عام كشفت هشاشة العلاقة بين الشعب ومؤسساته.
رغم صدور بيان رسمي من مجلس القضاء العراقي يؤكد أن الوفاة كانت نتيجة انتحار، لم تهدأ موجة الشكوك التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي والمجالس الشعبية. كثيرون رفضوا الرواية الرسمية، ونسجوا سيناريوهات تتحدث عن جريمة قتل مدبّرة، متهمين جهات سياسية وأمنية بالتورط، ومشيرين إلى “قوى خفية” تسعى إلى طمس الحقيقة.
هذه الشكوك لا تأتي من فراغ، بل من تاريخ طويل من الحوادث الغامضة التي لم يُكشف عن فاعليها، خاصة عندما ترتبط بشخصيات عامة أو قضايا حساسة. أصبح التستر الحكومي، في نظر الكثيرين، حقيقة لا تُناقش، حتى وإن كانت الأدلة الرسمية تشير إلى خلاف ذلك.
حادثة الدكتورة بان ليست مجرد رد فعل على وفاة شخصية معروفة، بل هي نتيجة تراكمية لغياب الثقة بالمؤسسات القضائية والتنفيذية. لعقود، عانى العراقيون من فساد مستشرٍ، وتدخلات سياسية في القضاء، وفشل متكرر في تحقيق العدالة، ما جعل الرواية الرسمية تُستقبل بريبة.
حين يفقد المواطن ثقته بمن يُفترض أن يحمي القانون، يبدأ بالبحث عن مصادر بديلة للمعلومة، حتى لو كانت مجرد شائعات. في هذا المناخ، تصبح الحقيقة وجهة نظر، وتتحول كل حادثة إلى دليل جديد على فشل النظام وتآمره.
ولكي لا تتكرر هذه المآسي، لا يكفي إصدار بيانات رسمية. المطلوب هو بناء جسور ثقة حقيقية عبر الشفافية، استقلال القضاء، محاسبة الفاسدين، وإثبات أن القانون فوق الجميع. فقط حينها، يمكن للرواية الرسمية أن تُحترم، وتتحول من مصدر للانقسام إلى بداية للشفاء الوطني.