23 ديسمبر، 2024 11:58 ص

اجواء من الحزن تحلق في ليل بغداد، بل كل لياليها وحتى صباحاتها لتزرع نوع من الصمت الذي ألفناه في المقابر، حتى أضحت النعوش تبحث عن اجساد جديدة تحتضنها في ساعة غفلة.. صمت في رحم ضجيج الموت يتسلل بين العروق ليفرغ الدمع من جفون تكسرت على شواطئها الامل.. رغم كل ذلك فهناك من لايزال متمسكا بالأمل.. بالحياة.. لكن أين؟؟.. لاأحد يعلم..

فقد تعودنا على السواد الذي احتضن الحياة أو ماتبقى منها حتى أضحى يرتدينا بعد ان كنا نختبئ تحته هربا من كل همسات الفرح حتى يرفع البلاء، اذ كنا نسأل ونتساءل عن سبب حزن يلف بصديق أو قريب بل وحتى غريب.. في حين صرنا لاتعبأ بأسبابه ومسبباته اذ انها تصب في نهر واحد للحزن تفرعت منه ينابيع ضحلة شربنا منها جميعا، فلم نعد نسعى لندرك، فالادراك يتبعثر بين ضجيج الموت في بغداد..

مازالت كقطرات الندى حين تتساقط على غصن يانع في غابة تحترق اذ جابت بأنوثتها مخادع القلوب.. تلك الانثى التي اختمرت بشرتها بأشعة شمس الجنوب.. وتكسرت على اهدابها نسائم الزمن القاسي وانبتت لها انيابا تزيد من شراسة انوثتها، فقد كانت تظن انها تهرب من قدرها نحو بغداد.. لكنها كانت تجهل انها تدخل نعشا في معبد كبير للهموم لتصبح احدى راهباته..

ورغم قساوة الظروف التي مرت على بغداد لكنها لم تكن أشد وطأة من قساوة جمالها المفعم بخطوط تمتد نحو الامل لتجذبك نحو الحياة حتى تعشقها حد العبادة..

نظرة واحدة كانت تكفي لتشعره انها تحمل اجيالا من الهموم تربت وترعرعت بين جنبيها حالها كحال من يعيش في ارض السواد، رغم ذلك فقد اضفى الحزن لمسات ابهى الى جمالها، فنحن قبل كل شئ قد عشقنا الحزن حتى صرنا نتنفس منه ويتنفس فينا فلم يعبأ له طالما انبت لها مخالبا تحت انامل رقيقة، كما لم يلتفت الى تلك المخالب وهي تخدش فؤاده.. وتمزق احشاؤه من حيث يدري ولاتدري، فالمصيبة لو كانت تدري..

ساعات كانت تمر كلحظات لذيذة لم يشعر بلذة تشبهها في ماضيه الملئ بذكريات حياة تحتضر، لكن نشوة العشق تأبى ان تموت أو تحتضر، نشوة تزيد له ألم الاحتضار ولايملك الا الاستغاثة بمخالبها لتحفر المزيد من ذكريات اللحظات الجميلة في جسده وتنحت خطوطها على محياه..

الابواب المغلقة في حياتنا كثيرة لانعلم متى واين يمكن ان يطرق احدها، اذ طرقت وزلفت من باب طالما شعر انه مقفل تماما، لم يفتح الباب مطلقا، لكنها تسللت بصمت حيث لامكان.. لتملك المكان وتعبث بالزمان وتبعثر كل الاشياء وتصبح هي المكان..

ابتسمت له او لتغطي على حزنها.. لايدري.. المهم انها ابتسمت بوجهه لتتراقص بين ضلوعه حيث تلاقت عيناهما، ليمرحا في لحظات من الامل بعيدا عن العيون.. ويمشيا في طريق مسدود وهما يعلمان انه مسدود، فكلا منهما كان قد اختط طريقا خاصا به لم يجمعهما سوى عالم من الوهم كأنه يحتضنهما ليشعرا بأنفاس احدهما الآخر.. وحانت ساعة الفراق التي لم يذرف عليها دمعة حزن واحدة اذ جفت الدموع من كثرة السواد.. ولتبدأ الحكاية حين جفت الدموع..