في التاريخ العسكري تتكرر الأخطاء غالباً حين تُقرأ الانتصارات الأولية على أنها نهايات حاسمة، وليس كمقدمات لردات فعل أكبر وأعمق. هذا بالضبط ما حصل مع اليابان في ديسمبر 1941 عندما شنت هجوماً مباغتاً على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية، واعتقدت أنها بشلّ الأسطول ستُجبر واشنطن على الانكفاء وتُمهّد الطريق لسيطرة يابانية واسعة على آسيا. لقد أصابت اليابان أهدافها بدقة، لكنها لم تُكمل المهمة. لم تُدمر حاملات الطائرات الأمريكية، ولم تضرب منشآت الوقود، ولم تُسقط إرادة الأمريكيين، بل أيقظت مارداً عسكرياً كان نائماً. كانت بيرل هاربر ضربة قوية من حيث التكتيك، لكنها فشل استراتيجي من حيث النتائج؛ فبعدها دخلت الولايات المتحدة الحرب بكل قوتها، وانقلبت الطاولة على طوكيو حتى انتهت بسقوط قنبلتين نوويتين فوق هيروشيما وناغازاكي.
اليوم، وبعد أكثر من ثمانية عقود، تعود القصة بصيغة أخرى، لكن ببصمة إسرائيلية هذه المرة. ففي الفترة بين 12 و23 حزيران/يونيو 2025، شنت إسرائيل ما بدا كعملية دقيقة وسريعة ضد مواقع إيرانية حساسة، استهدفت منصات صواريخ ومراكز قيادة ومنشآت يعتقد أنها مرتبطة بالبرنامج النووي. التصريحات الأولى أوحت بأن إسرائيل بصدد تنفيذ “بيرل هاربر” خاصة بها، ضربة خاطفة تُجبر العدو على التراجع وتفرض واقعاً جديداً على الأرض. غير أن ما حدث لاحقاً كشف أنها أعادت ارتكاب الخطأ الياباني ذاته. صحيح أن الأهداف أُصيبت، وبعض المنظومات الإيرانية تعطلت، لكن إيران لم تُهزم. لم تُجفف منابع النار، لم تُسكت غرف العمليات، ولم تُسقط إرادة المواجهة. بل بالعكس، جاءت ردود طهران خلال الساعات والأيام التالية عنيفة ومنظمة، وتوسعت لتشمل قواعد أمريكية في المنطقة، وضربات بالصواريخ والطائرات المسيّرة.
الخطأ الذي ارتكبته إسرائيل لا يتعلق بفشلها العسكري، بل بإفراطها في الثقة بأن ضربة أولى كافية لتغيير الواقع الجيوسياسي. وهذا تحديداً ما فعلته اليابان في بيرل هاربر: انتصار جزئي، يتبعه انهيار استراتيجي. فمثلما أخطأت طوكيو عندما تجاهلت العمق الصناعي والعسكري لأمريكا، أخطأت تل أبيب حين استهانت بالمرونة الإيرانية والقدرة على الصمود وتدوير الزوايا. لم تكن المشكلة في عدد الطائرات أو دقة الذخائر، بل في فهم طبيعة الخصم: خصم عقائدي، واسع الامتداد، لا يخضع بسهولة للردع التقليدي، ويتعامل مع كل معركة على أنها جولة في حرب طويلة النفس.
تلك الأيام المعدودة من حزيران 2025 ستسجل في كتب الاستراتيجيا تماماً كما سُجلت بيرل هاربر: مثال على كيف يُمكن لضربة مباغتة أن تتحول من فرصة إلى ورطة، ومن بداية لنصر إلى شرارة لمواجهة واسعة. لقد فشلت إسرائيل في حسم المعركة لا لأنها عاجزة، بل لأنها قرأت الواقع بشكل خاطئ، واستعجلت النتيجة دون تفكيك البنية المعقدة للخصم. واليوم، كما حدث في أربعينيات القرن الماضي، نشهد تبدلاً في المزاج الإقليمي والدولي، واستنفاراً عاماً بدأ في طهران، وقد لا يتوقف عند حدود الرد.
إن دروس التاريخ لا تكرر نفسها حرفياً، لكنها تُعيد سرد جوهرها لمن لا يستمع جيداً. فكما كانت بيرل هاربر نقطة تحول لا رجعة فيها في الحرب العالمية الثانية، يبدو أن ضربة إسرائيل الفاشلة لحسم المعركة مع إيران قد تكون نقطة اللاعودة في صراع ظل حتى الآن تحت السطح، وخرج الآن بكل أبعاده المفتوحة.