يمر التاريخ البشري بمحطات حاسمة صنعت الفارق بين الحضارات، وشكلت الفارق بين من سعى إلى بناء الإنسان ومن سعى إلى تدميره. ومن بين أزهى تلك الحقب وأكثرها إنسانية ورقيًّا، كانت تلك التي سادت فيها الدول الإسلامية بقيادة العرب، حيث شهد العالم نهضة شاملة في شتى مجالات الحياة، قادها علماء ومفكرون وحكام جعلوا من العدالة والعلم أساسًا للحكم، ومن الأخلاق مرجعًا لكل تصرف.
في مقابل هذه النهضة الأخلاقية والإنسانية والعلمية، نجد أن العديد من الدول الغربية الاستعمارية، التي جاءت لاحقًا، ركزت جهودها على تطوير أدوات الهيمنة والتسلّح، فجعلت من العلم وسيلة للقتل لا للحياة، وللتدمير لا للبناء. وهنا يبرز الفرق الجوهري بين حضارتين: حضارة الإنسان، وحضارة السلاح.
حين تولت الدول الإسلامية بقيادة العرب زمام الحضارة، لم يكن ذلك من خلال الغزو أو القهر، بل من خلال نشر المعرفة والعدالة. وتحديدًا في العصور العباسية والأموية والأندلسية، ازدهرت العواصم الإسلامية مثل بغداد، دمشق، القاهرة، قرطبة، وفاس، وأصبحت قبلة العلماء والمفكرين من شتى بقاع الأرض.
كانت الحضارة الإسلامية آنذاك الرائدة عالميًا ، في العلوم الطبيعية والإنسانية: في الطب: أسهم ابن سينا والزهراوي والرازي في تأسيس المدارس الطبية، وتأليف موسوعات بقيت مراجع لقرون في أوروبا. وفي الرياضيات: برع الخوارزمي في تأسيس علم الجبر، وابتكر مفاهيم أساسية تُدرّس حتى اليوم. اما في الفلك: أنشئت المراصد الفلكية، وتوصل العلماء المسلمون إلى حسابات دقيقة لحركة الكواكب والنجوم، بل تحدثوا عن دوران الأرض قبل أوروبا بقرون. و في الفلسفة: كانت هناك حركة عقلانية واسعة يقودها فلاسفة كـ ابن رشد والفارابي والكندي، جمعت بين العقل والإيمان.
اما في التنظيم السياسي والاقتصادي، فلم يكن الحكم عشوائيًا، بل تأسس على قواعد واضحة من الشورى، والمحاسبة، والعدالة الاجتماعية. عملت الدولة على توزيع الثروات بعدل، وأقيمت نظم متقدمة للزكاة والوقف، ما أدى إلى ازدهار اقتصادي طال الحواضر والقرى.
.وفي التطور الاجتماعي والإنساني ، أولت الحضارة الإسلامية اهتمامًا بالغًا بالتعليم، والرعاية الصحية، والعدالة الاجتماعية. وتم احترام حقوق المرأة، والأطفال، وكبار السن، وحتى الحيوانات. وعُرفت المجتمعات الإسلامية بتسامحها مع الأديان الأخرى، فكان اليهود والمسيحيون يعيشون بين المسلمين في أمان واحترام، ويمارسون شعائرهم بحرية.
ورغم هذا التقدم الكبير، لم يكن الجانب التسليحي أولوية عند المسلمين، إذ كانت غاية الدولة الإسلامية هي نشر الرسالة والقيم لا الغزو من أجل السيطرة. لم تُبذل الجهود من أجل ابتكار أدوات دمار شامل، ولم يكن هناك تسابق نحو تصنيع أسلحة فتاكة، لأن الهدف كان حياة الإنسان، لا القضاء عليه. لقد قاتل المسلمون حين فرضت عليهم الحروب، لا من أجل نهب الثروات أو احتلال الشعوب، بل من أجل الدفاع عن النفس، ونشر العدالة. ولهذا كانت الفتوحات الإسلامية مصحوبة دائمًا برسائل التسامح، واحترام الثقافات، وعدم إكراه أحد على الدخول في الإسلام.
في مقابل ذلك، ومع انطلاق الاستعمار الأوروبي منذ القرن السادس عشر، ظهرت حضارة من نوع آخر، حضارة لا تبني الإنسان، بل تصنع أدوات إخضاعه. تسخّر العلم من أجل التفوق العسكري، وتصنع من الثورة الصناعية بوابة لصنع المدافع، والبنادق، والطائرات، والقنابل.
لقد مارس الغرب الاستعمار بأبشع صوره:
ولم يتوقف الأمر عند الاستعمار، بل شهد القرن العشرون حربين عالميتين سقط خلالهما أكثر من 70 مليون إنسان، وانتهت بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناكازاكي، في مشهد يختزل فلسفة حضارة تقوم على الردع والرعب.
الفرق بين الحضارتين يمكن تلخيصه في المقارنة التالية:
البعد |
الحضارة الاسلامية |
الحضارة الغربية الاستعمارية |
الغاية |
بناء الانسان والمجتمع |
التوسع والسيطرة |
العلم |
لخدمة البشرية |
لتطوير أدوات الهيمنة |
التقدم العسكري |
وسيلة دفاع لا هجوم |
وسيلة للغزو واردع النووي |
الرسالة الاخلاقية |
تقوم على الرحمة والعدل |
تقوم على القوة والمنفعة |
معاملة الآخر |
احترام وتعايش |
اخضاع واستغلال |
لقد أثبت التاريخ أن الحضارة الإسلامية حين كانت في أوجها، قدمت للإنسانية ما لم تقدمه أي حضارة أخرى في تلك الحقبة: علمًا، عدلًا، تسامحًا، وإنسانية. ولم تسعَ إلى تدمير أحد، بل إلى عمارة الأرض وفق مبادئ القرآن الكريم وقيم النبوة. وفي زمن يعاني فيه العالم من توحش الحروب، وتسليع الإنسان، وتقديس القوة، نحن بحاجة إلى استلهام روح تلك الحضارة التي آمنت بأن العلم مسؤولية، والقوة أمانة، والحياة حق مقدس.
فليكن شعارنا: “نعم للتقدم، لا للدمار. نعم لبناء الإنسان، لا لصنع الأسلحة“.