18 ديسمبر، 2024 9:09 م

حينما يشاهد الطفل دموع والده

حينما يشاهد الطفل دموع والده

ذكريات الماضي تلاحقنا مهما حاولنا الأبتعاد عنها ترسم في زوايا الذهن رموزاً وصوراً كأنها تدافع عن حكاياتٍ خالدة في صفحات الروح. حينما كنتُ طفلاً كنتُ أنظر الى والدي كأنهُ جبلٌ لايمكن التلاشي مهما حدثت رياح عاصفة في محيط سنوات الطفولة. هل يمكن بالنسبةِ للطفل أن يرى والده يذرف دموعاً ؟ بالنسبة لي في ذلك الزمن كل شيءٍ ممكن الحدوث إلا أن أرى والدي يبكِ بحسرة وخوف وألم وينطقُ بكلماتٍ قليلة لم أفهم معناها إلا بعد أن حطت عصا ترحال عمري على سنوات الفتوة. صورة لايمكن أن تزيلها أمواج العمر الهادرة مهما حاولتُ وحاولت. كنتُ في السنةِ التي سبقت دخولي المدرسة الأبتدائية ..أجلسُ مرتبكاً بقربهِ ألتصقُ به كأنني أخشى الغرق في محيط من أمواجٍ لاترحم . أحد أصدقائهِ المقربين من تلك البقعة الخضراء يتحدثُ الى والدي يحاول تهدئتهِ ويتوعد بتحطيم أي شخصٍ يقتربُ منه ومن عائلتهِ المتواضعة. والدي يشهق بصوتٍ مكتوم ويقول بالحرف الواحد (ولكن لماذا يحاول إرعاب أطفالي في جنح الليل ويعمل ثقباً في جدار الغرفة الطينية التي ينام فيها صغاري وأمهم ويستغل عدم وجودي في تلك الليلة لأنني كنتُ أعمل في الوجبات الليلية. هل يهددني بالرحيل من هذه القرية أم يرسل رسالة تحذيرية لجريمة لم أقترفها أبداً؟ حسناً سنرحل قريباً ونترك صداقتكم وعطفكم وعنايتكم الرائعة بنا جميعاً. أتمنى لو واجهني وأخبرني عن سر ذلك العمل الشنيع ). راح والدي يمسح دموعه بطرف غطاء رأسه المطرز بالأسود وألأبيض – اليشماغ- ويحاول أن يسيطر على نفسه. طفق صديقه الرائع – صافي- يتكلم بجدية ويقول بالحرف الواحد (سيد محمود..لن يقترب منك أحد مادامتُ أنا أتنفس الهواء. من يجرؤ على الأقتراب من صغارك وأنا أعيش على أرضِ هذه القرية. دع الأمر لي وسأتصرف بطريقةٍ تجعل التاريخ يوثقها يوما ما). وها أنا الطفل الصغير أوثق كل شيء على مسمع ومرأى العالم. كنتُ أقلّبُ نظراتي بين صديقهِ وبين والدي وأتعجب عن سر تلك الدموع. هل يمكن أن يبكيِ والدي؟ هل يمكن أن يذرف الدموع أي رجلٍ في عمرِ والدي؟ الدموع لاتليق بالرجال مهما كانت الظروف..لكنه يبكيِ الآن. كان جسدي يرتعش كجسدِ عصفورٍ صغير سقط من أعلى غصنِ شجرة في يومٍ عاصف. أنتهى اللقاء وقَبَّلَ الرجل الطيب جبين والدي لكن جرحي لازال ينبض حتى هذه اللحظة. بعد عدة ليالٍ حدثتُ والدتي عن ذلك الأجتماع الرهيب. صمتت بألم وطلبت مني أن أنسى كل شيء. بعد أن تقدم العمر عرفت سر تلك الدموع . كان الرجل الذي هاجم صغار والدي في ليلةٍ حالكة السواد يعشق شقيقة صديق والدي – الأرملة- ويتمنى الزواج منها. كلما تقدم لطلب يدها رفضته بعنف . كان والدي يتردد على بيتِ صديقه مرات كثيرة وكنتُ في بعض المرات أرافقه في تلك الزيارات. إعتقد الرجل المهاجم أن تلك الأرملة يعشقها والدي وهي ترفض بسبب ذلك علماً أن والدي كان لديهِ أربعة أولاد وثلاث بنات ولايمكن أن يتزوج مرة أخرى لأنه كان لا يكاد يوفر الطعام لعائلتهِ . تم تسوية الموضوع وحدث الصلح بين الأطراف المتنازعة. للتاريخ كان الرجل المهاجم طيباً والجميع يحترمه لأنه ينتمي الى أشراف القوم وأحد أبنائه من أعز أصدقائي . حينما كنتُ في الثالث المتوسط أطالع دروسي على السدة الترابية القريبة من البيت جاء –الرجل المهاجم- قادماً من بيت صديق والدي – كان ذلك عام 1973 وكنتُ يتيم الأب لأن والدي قد مات ودفن في القرية البعيدة. وقف قربي بملابسهِ الريفية الأنيقة وراح يمزح معي وكأنه يريد أن يُثبت لي أنه يحبني وقد نسي كل شيء. هو لايعرف أنني أعرف كل شيءٍ عن حكايتهِ مع والدي. الحق يُقال كنتُ أنظر في عينيهِ مباشرة بتحد وكأنني أريد أن أصرخ في جههِ – أنت من جعل دموع والدي تتفجر- مَدَّ يدهُ وقال لي – سأقرصك من ذراعك وأجعلك تبكي– بدون تردد قدمتُ له ذراعي وصرختُ بقوة – أتحداك إن جعلتني أذرفُ الدموع. ضحك بلطفٍ شديد وقال – سأنتزع قطعه من لحم ذراعك- وراح يقرصني من ذراعي بكل قوة في اللحظة الأولى شعرتُ وكأن سكيناً حادة تنفذ الى جسدي حاولت الصراخ بَيْدَ أنني تذكرتُ دموع والدي وقاومت وقاومت وقاومتُ حتى سحب يده وهو ينظر في عينيَّ بألم وعطف. قبلني وراح يمسح دموعه . تركني وحيداً أتالم بأقصى درجات الألم. في اللحظة التي صار فيها بعيداً ركضتُ مسرعاً وجلستُ تحت ألأشجار الكثيفة كي لايراني أحد وشرعتُ أبكَ بكل قوة وأنا أردد بصوت متقطع – نم قرير العين ياوالدي تحت التراب هنا في القرية البعيدة لقد إنتصرتُ عليه – مسحتُ دموعي وأسرعتُ الى نهر الفرات أغمس جسدي بالماء العذب وأختلطت آلامي بأمواج الماء وظلت دموعي تمتزج بأعذبِ ماء لامس جسدي حتى هذه اللحظة . كان إسم الرجل -ص. م- .