توحي تداعيات الوقائع والاحداث في منطقة جنوب غرب اسيا(الشرق الاوسط)، ومناطق اخرى من العالم، بأن الذهاب نحو خيار الحرب والمواجهة، هو الاكثر وضوحا وطغيانا من خيار الجنوح الى السلام والتعايش وتجنب المزيد من الكوارث والويلات.
وبينما كانت منذ اعوام او عقود، ومازالت، تتعثر جهود ومساعي احلال السلام بين قوى مختلفة، سواء كانت دول، او مكونات مجتمعية داخل دول، تحمل عناوين ومسميات قومية ودينية وطائفية وقومية وعرقية، كانت مساحات الدماء، ومظاهر الخراب والدمار، ومشاعر الكراهية والاحقاد تتنامى وتكبر وتتسع.
لن نذهب بعيدا، للتدليل على مصداقية وواقعية ما نذهب اليه ونستشرفه ونفترضه، لان وقائع واحداث اليوم لاتختلف كثيرا عن وقائع واحداث الماضي القريب، وحتى البعيد، ولم يخطأ من قال “ان التأريخ يعيد نفسه”.
ولعل اعلان الرئيس الاميركي دونالد ترامب تعليق الالتزام بمعاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة المدى(INF) المبرمة مع روسيا في عام 1987، اي قبل انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي بأعوام قلائل، يؤشر الى ان نطاق المواجهة بين واشنطن وموسكو اخذ في التمدد والاتساع.
ويذكر ان معاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى، ابرمت في مفصل زمني مهم، كان العالم يعيش فيه ملامح وبدايات انفراج الحرب الباردة وحروب النيابة بين القوتين العظميين في ذلك الحين، لاسيما في ظل سياسات الغلاسنوست والبيروسترويكا(الاصلاحات) التي تبناها الرئيس الروسي الراحل ميخائيل غورباتشوف، والتي انتهت الى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي-الشيوعي برمته مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وساهمت تلك المعاهدة في توفير قدر كبير من الامن والسلم الدوليين، بعد عقود من سباق التسلح النووي وغير النووي، والمواجهات السياسية والاعلامية، والمؤامرات المخابراتية بين الطرفين.
واليوم فأن تعليق الالتزام بها او الانسحاب منها، يعني العودة الى الوراء، خصوصا وان واشنطن تتهم موسكو بخرق المعاهدة حينما راحت تزود سوريا ودول اخرى بأنظمة صاروخية متطورة، في حين ترد موسكو على واشنطن بأنها وراء التنصل من المعاهدة، حينما بادرت الى نشر نظام دفاعي صاروخي في رومانيا.
وايا يكن الطرف المتسبب في خرق المعاهدة، فأن اجواء الشحن والشد والتأزيم الاعلامي والسياسي الحاد بين الجانبين، تنذر بمخاطر كبيرة، اذا لم يتم تدارك الامور قبل فوات الاوان.
ومثلما ساهمت اتجاهات البحث عن خيارات لحلحلة الامور ونزع فتيل الازمات قبل اكثر من ثلاثين عاما، في ابرامها، فأن التصعيد والتأزيم الحالي ربما لن يمر بسلام، وما يعزز مثل تلك التوقعات، هو ان التنصل عن المعاهدة المذكورة، او النوايا بهذا الاتجاه، جاءت في خضم اوضاع قلقة ومتأزمة الى حد كبير في نقاط ومواضع عديدة من الخريطة العالمية.
فالصراع بين واشنطن وطهران بلغ مستويات خطيرة، خصوصا بعد قيام الرئيس ترامب بفرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على ايران، تبعها بأطلاق التهديدات والتلويح بأستخدام القوة العسكرية من اجل ردع طموحاتها التوسعية وتهديدها لمصالح واشنطن وحلفائها واصدقائها في المنطقة.
وطبيعي ان واشنطن حينما توجه سهامها نحو طهران، فهذا يعني استهداف كل اطراف محور المقاومة في المنطقة، بما فيها النظام السوري، وحزب الله اللبناني، والحشد الشعبي العراقي، وحركة انصار الله اليمنية، والقوى السياسية الشيعية في البحرين، وطبيعي ان تقوم واشنطن بدفع وتحفيز اصدقائها وحلفائها واتباعها، مثل اسرائيل والمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة على الضغط والتحشيد الاعلامي والسياسي والعسكري على اطراف محور المقاومة، وهذا واضح وجلي في اليمن وسوريا وميادين اخرى.
فأسرائيل حينما تقصف مواقع سورية، فهذا يأتي في سياق التصعيد الخطير وغير المسؤول، ونفس الشيء حينما تنهمر صواريخ وقذائف ما يسمى بقوات التحالف العربي على المدن اليمنية كالمطر، ونفس الشيء حينما تضع واشنطن وحلفائها، الحشد الشعبي العراقي في دائرة الاستهداف والتسقيط والتشهير.
في مقابل ذلك، فأنه من الطبيعي جدا، ان ترد قوات حركة انصار الله اليمنية على الرياض وابو ظبي بنفس الاسلوب، ومن الطبيعي جدا ان تتوقع تل ابيب ردا حازما في اي وقت، سواء من دمشق او من حزب الله، ومن الطبيعي جدا ان لاتستسلم طهران وتذعن لاملاءات وتهديدات واشنطن، وهي التي لم تفعل ذلك طيلة اربعين عاما رغم كل الضغوط العسكرية والسياسية والاعلامية، بل على العكس من ذلك تماما، فأنها راحت تستعرض على مرأى من العالم كله، وهي تحيي الذكرى السنوية لانتصار الثورة الاسلامية، ما تمتلكه من اسلحة وصواريخ قادرة ان تصل الى تل ابيب وعواصم اخرى، حيث المصالح الاميركية.
ولاشك ان اتساع مديات وحدود التصعيد والتأزيم، ليصل الى ميادين عالمية اخرى، كما حصل في فنزويلا مؤخرا، يعيد الى الاذهان ما كان يجري من صراعات اقليمية ودولية هنا وهناك، بالنيابة عن القوتين العالميتين الاكبر ابان الحرب الباردة(1945-1991).
ولعل ازمة فنزويلا، اظهرت حالة من الاستقطاب الحاد في الساحة الدولية، ومايمكن ان تفضي اليه من تداعيات وتبعات، قد يصعب السيطرة عليها والتحكم بها، عندما تبلغ الحافات الخطرة.
وهذا الاستقطاب الحاد، لم يظهر بين ليلة وضحاها على ايقاع الانقلاب الاميركي الفاشل في كراكاس، وانما هو في واقع الامر ارتبط بأزمات اخرى قبلها، في سوريا والعراق وايران ولبنان واليمن واوكرانيا وغيرها، ومن غير المستبعد ان يلقي-الاستقطاب الحاد-بظلالها الثقيلة بدرجة اكبر على اوضاع المنطقة تحديدا، ليبدد بالتالي اي فرص وامكانيات لحلول ومعالجات، تضع على الاقل حدا للاستنزاف والنزوع نحو المزيد من الحروب العبثية الخائبة.