كلما سمعتُ هذا الجاز الحزين يسافر ذهني الى سنوات المراهقة والطفولة والشباب ويحلق شعوري الى شخص عزيز على قلبي سافر الى العالم الآخر بعد معاناة حياتية شديدة…وَدّعَ هذه الأرض في غفلةٍ من الزمن دون ان اشبع نظراتي من النظر الى وجهه الباسم طيلة سنوات العمر. ترتبط ذكريات طفولتي مع هذا الانسان بذكريات فريدة من نوعها وعشقي له عشق طفل من نوع خاص . حينما كنا نعيش في القرية البعيدة في الخمسينات تفتحت عينيّ في بداية الستينات وبدأتُ اميّز مايدور حولي على الرغم من سنواتي اليافعة حيث الطفولة هناك . كان هذا الشخص في مقتبل العمر ويأتي لزيارة بيتنا في القرية البعيدة ولم اكن اعرف صلة القرابة التي تربطنا مع بعض بسبب صغر سنوات العمر ..لكن الذي اعرفه انه كان يداعبني ويداعب شقيقي الاصغر مني ويحملنا على كتفه ويسير هنا وهناك في البستان ويرافقنا الى الكثبان الرملية التي كانت تغطي المنطقة البعيدة نسبيا عن مكان البيت. كنا نطلق على تلك المنطقة اسم – الطعوس – والطعس هو كومة من الرمال او اشياء اخرى ولكثرة تلك الاكوام الرملية رحنا نطلق عليها اسم – الطعوس- كانت تلك الطعوس تشكل بالنسبة لي اجمل بقعة على كوكب الارض ولن ابالغ حينما اقول انها بالنسبة لي اجمل من – دالاس وفرانكفورت ومدريد وحتى جزر القمر . هي طفولة بريئة وذكريات محفورة في قلبي المرهق منذ تلك السنوات حتى هذه اللحظة. حينما تقدم الزمن عرفت ان ذلك الزائر هو ابن عمي وابن خالتي في نفس الوقت….قرابة شديدة جدا كأننا اشقاء . كان يكبرني بعشر سنوات لكنني حينما اجلس معه واتحدث عن سير الحياة ومعاناة العشاق عند الكثبان الرملية وخرير مياه الفرات القادم من منطقة لا اعرف اين تقع الا من كونها قادمة من دولة اخرى لتصل الى قريتنا البعيدة القريبة من القلب. حينما حطت عصا ترحال عمرهِ على الثمانية عشر عاما تطوع للجيش في معسكر الغزلاني لعدم وجود عمل في ذلك الزمن . في اجازاته الدورية ياتي من بغداد لزيارة بيتنا الصغير في القرية البعيدة وكان يحكي لي ولشقيقي ولشقيقاتي عن حياته في تلك المناطق الجبلية وعن الثلوج وعن كل شيء . كنتُ انظر الى وجهه كمن اصابه مَسٌّ من الهذيان فقد كانت طريقته في الحديث ساحرة تنقلني الى عالم من الخيال اللا محدود. في اللحظة التي دخلت فيها الجامعة كان هو قد صار عريفا في معسر التاجي وراح يدرب الجنود وكأنه ممثل اجنبي في فلم من افلام – الويسترن- كان وسيما جدا وباسما ويحظى بحب كل من يجلس بقربه. حينما اقترن بشقيقتي الاكبر مني اصبح بالنسبة لي رجلا في قمة الود وصار يتحدث معي وكأنني شقيقا له بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى. كان يعشق موسيقى الجاز بشكل هستيري ويستمع الى ساعة كاملة كل يوم من صوت امريكا باللغة الانكليزية حيث كان برنامج – ساعة من الجاز – ياتي عبر الاثير كل يوم في الساعة الحادية عشرة ليلا. مرة من المرات سألني عن كلمة او عبارة – shadow of the walls – وحينما اخبرته بانها تعني – ظلال الجدران – صرخ باعلى صوته – واوووو – ضحكت لأنه قالها بطريقة كوميدية كأنه يؤدي دورا قصيرا في مسلسل اجنبي لن ير النور يوما ما . اخبرني بانها لحن لأحدى مقطوعات الجاز واسمعني اياها في تلك اللحظة….وللتاريخ في تلك اللحظة صار ذهني يبحث عن موسيقى الجاز وكأنه سيطر على ذهني بطريقته تلك. اليوم بعد اكثر من عشر سنوات على رحيله الى العالم
الآخر..وبينما انا استمع الى قطعة حزينة من موسيقى الجاز شعرت انه يجلس الان معي ويتحدث الي بطريقة الاخ الاكبر…راحت دموعي تمسح كل صفحة من صفحات وجهي المرهق بسبب دمار بلدي الجميل وقفزت اناملي الى كل مضرب من مضارب الكي بورد لتسجل هذه المشاعر التي لايمكن وصفها مهما حاولت. تمنيت ان اكون كاتبا لأكتب عنه اجمل حكاية عرفها التاريخ ولكن مع الاسف لازالت يافعا في حقول الكتابة ولا استطيع ان عبر له عن عشقي الكبير … الا بكلمات صادرة من قلب مهشم بكل ماتعنيه هذه الحروف من معنى. سلاما لذكريات الزمن الجميل وسلاما لك في قبرك ابا حسن…لا أعرف سر هذا الحنين الى ذكريات كانت لي معها وقفة لايمكن ان ترسمها ريشة فنان مهما علت قدراته الفنية..اليوم ايضا راود ذهني شخص ضاع الى الابد ..ضاع مني في بلاد الغربة عشقته عشقا اخويا لا احد يعرفه الا من خلق هذا الكوكب ..لكنه هو الاخر صار من ذكريات الماضي الجميل..لا أعرف هل تركني ام تركته ام اجبرنا القدر ان نترك بعضنا البعض..لازلت احن اليه ..لكنه طار الى مكان لايمكن الوصول اليه مهما حاولت الطيران بكل وسائل الطيران ..سلاما له إن كان يذكرني ووداعا له إن كان قد خرجتُ من ذاكرته….انه مُلْهِمْ……