حينما امكن لي ان احصل على الموافقة الدراسية من دائرتي بعد 4 سنوات مضنية من المحاولات بهدف التنافس للحصول على الشهادة العليا, كان الامل الكبير يحدوني. فلقد اجتهدت في سنوات دراستي الجامعية كي اتخرج بمعدل يقارب الـ78% من قسم اللغة الانكليزية في كلية الاداب بجامعة بغداد, و بتسلسل بلغ 11 من اصل 71 في العام 2003. و لم ادخر في الاستعداد للامتحان جهدا بالنظر الى رغبتي الجامحة للوصول الى هدفي ممثلا في نيل شهادة الماجستير التي بقيت انتظر فرصة السعي من اجلها10 سنوات حتى واتتني فرصة التنافس هذا العام. و جاء الامتحان الموعود و توجهت و بذلت قصارى جهدي. لكن ظهور النتائج فاجئني الى حد كبير, و كبير بقدر املي الكبير الذي تبدد. لقد نجح آخرون و اظنهم يستحقون النجاح و لست ابخس حقهم قط. لكن مفاجئتي و مصدر احباطي لم يكن عدم نجاحي بقدر ما كان الفارق الكبير في المعدلات بيني و بينهم. فها هم خريجو الكليات الانسانية يحققون معدلات خيالية لا تخطر في البال, معدلات باتت تتجاوز الـ95% في بعض الاحيان و بشكل لافت لخريجي الاعوام العشرة الاخيرة, اعوام انتظاري العشرة الاخيرة!. و حينما كانت اسماء و معدلات الطلبة الخريجين من جامعة بغداد للعقود الثلاثة الماضية منشورة على موقع الجامعة على شبكة الانترنيت, فكرت بيني و بين نفسي في البحث و التقصي علّي اجد جوابا لسؤالي المحير الكبير. فما الذي تغير كي تكون معدلات الطلبة الاوائل في ثمانينيات و تسعينيات القرن الماضي متقاربة و معقولة بالاجمال حتى تتغير و تقفز قفزة هائلة لما وصلت اليه في الاعوام العشرة الاخيرة يا ترى؟
هل كانت ظروف الحياة في فترات الحروب و العقوبات الاقتصادية عائقا امام انطلاق و ظهور الابداعات المتميزة التي ظهرت الان يا ترى؟ ام ان ظروف العراق الحالية من ارهاب و قتل و تهجير و تشريد و نقص خدمات و بطالة و عنف و (واوات اخريات كثيرات) لم تكن كافية لاضعاف مواهب من تخرجوا في العقد الاخير كي يحققوا كل هذه الارقام الهائلة في تخصصات انسانية لطالما عرفنا ان طلابها مهما نبغوا و كتبوا و تميزا انما يأتيهم رأي الاستاذ التقليدي الذي يقول (كان يجب ان تكتب اكثر)؟فما الذي حدث؟ او ليس للظروف المجتمعية و السياسية و الاقتصادية العامة تأثير على كل شيء بما في ذلك معدلات و مستويات الطلبة الجامعيين من بين كل شيء, ام ان العقد المنصرم شهد استثناءا فريدا من نوعه يا ترى؟ و كيف باتت المبالغة في هذه المعدلات صارخة الى هذا الحد الذي ضاعت معه فرصتي ليقتصر القبول على من حققوا معدلاتهم الفلكية في العقد المنصرم يا ترى؟ و لست هنا في موضع المشكك بنزاهة الاساتذة و التدريسيين الجامعيين مطلقا. فمن غير المعقول ان يتمكن طالب من تحقيق معدل اجمالي يتجاوز الـ90% من خلال الفساد بالنظر الى حقيقة ان شخصا لا يستطيع رشوة الناس جميعا كي يحقق نتائج باهرة من هذا النوع. لقد اجتهد و ثابر هؤلاء الطلبة و سعوا حتما. لكن من غير المعقول ان تقفز المعدلات الى هذه المستويات العجيبة. فأين يكمن السر ان لم يكن الفساد هو الجواب يا ترى؟ لقد تناهت اسئلتي و حيرتي الى صديق و استاذ جامعي شعر بألمي و ضياع فرصتي و حلمي فقال لي “لا تبتأس, فالاستاذ الجامعي انسان مثلك و مثلي, يخشى على نفسه و عائلته و مصدر معيشته من مخاطر الظروف الراهنة. ظروف السنوات العشر المنصرمة. و اذا ما وجد استاذ نفسه مضطرا بفعل الخوف او التهديد لمنح من لا يستحق النجاح, منحه درجة النجاح, فأن تعويض الاخرين الذين يستحقونه سيكون رفع مستوى درجاتهم و بالتالي معدلاتهم كي يتحقق الحد الادنى من العدالة بين الدارسين. و هكذا, فأذا ما نجح من لا يستحق النجاح, كان لزاما و لابد من تعويض من يستحق النجاح حقا بدرجة اعلى تفرق بينه و بين من لا يستحق.” و هكذا اضطر التدريسون لردم الهوة بطريقة حفظت لهم حياتهم و معاشهم, و حفظت نوعا من التوازن بين الجميع, حتى نجح الكثيرون و عبروا في الاعم الاغلب. لكن هذا التوازن لم يحفظ حق من عانوا و درسوا في زمن حروب الدكتاتورية و عقوباتها حتى باتت الفرص كما يظهر من نتائج قبولات الدراسات العليا للعام الحالي 2013-2014, باتت مقصورة على من تخرجوا في السنوات القليلة الماضية مسلحين بمعدلات هائلة لا يستطيع العقل و المنطق استيعاب كيفية تحقيقها. لقد تسلل الخوف من المجهول الى حياتنا بطريقة عميقة, و لا عجب ان الجميع تأثروا بهذا بدرجة او بأخرى. و لقد دفعت انا و غيري ثمنا لا استحق دفعه و ان كنت لا ابخس حق من نجحوا و لا اشيد الا بالتدرسي الجامعي الشجاع الذي بذل الكثير من اجل ان تستمر مسيرة التعليم, التي و ان تعثرت, لكن تعثرها كان افضل من توقفها كما يريد الارهاب و الظلاميون. فهل هنالك من يفكر في خسارتي و اقراني ممن عانوا ظروف الماضي و ضاعت فرصتنا على ما يبدو هكذا؟ و لم لا ترى وزارة التعليم العالي ضرورة النظر في هذا الامر و تحقيق قدر من التوازن كأن يكن في اعتماد درجة التسلسل بحيث تحتسب من 10 بدلا من 5 للخريجين الذين تخرجوا في سنوات زمن الدكتاتورية تعويضا لهم على الفرق الهائل في المعدلات الذي بتنا نعانيه اليوم. و لا حاجة بي للقول ان الابواب الاخرى مغلقة كذلك. فبعثات مكتب رئيس الوزراء تشترط عمرا غير معقول للقبول و ضوابط غير معقولة احيانا, حيث يبدو ان من تجاوز عمر الـ30 عاما لا يستحق الدراسة وفق تلك ضوابط البعثات. فيما معركة البحث عن البعثات و الزمالات ضمن وزارة التعليم العالي تنتهي الى عذاب لا يوصل في كثير من الاحيان الى نتيجة. فمتى تنصفنا دولتنا و تشير الى حقيقة ان معدلات الخريجين في السنوات الاخيرة غير واقعية و مبالغ بها و تسلب الاخرين الذين سبقوهم كل فرص التعليم العليا, تسلبنا حلمنا كما سلبتنا الدكتاتورية البائدة الكثير في زمن آخر يا ترى؟
[email protected]