23 ديسمبر، 2024 10:24 م

حيدر العبادي  وعمر بن عبد العزيز

حيدر العبادي  وعمر بن عبد العزيز

أن الحديث عن الدكتور حيدر العبادي “رجل الإصلاحات العسكرية”, والشخصية الأكثر مقبولية, كرئيس للوزراء منذ منتصف العام 2003 حتى اللحظة, وبين الخليفة الأموي الثامن عمر بن عبد العزيز, هو لا يعدو إلا أن يكون حديثاً للمقاربة بين عصرين, ومكانين, وزمانين, وحالتين مختلفتين, مع مراعاة كافة الظروف والمتغيرات “الزمكانية”, وهو التقارب الذي يفرض علينا  إن نتساءل: هل يستطيع السيد العبادي القفز على الطائفية وإعادة هيكلة المجتمع وبناءه بصورة أكثر انسجامية وتصاهر المختلفات وتقارب المتناقضات واندماجها ببعض في وحدة وطنية تقتل المشروع الطائفي وتؤد الفتنة في عقر دارها؟؟
  وبالعودة إلى حديث عمر بن عبد العزيز فأن خلافته اشتهرت بأنها الفترة التي عم العدل والرخاء في أرجاء البلاد الإسلامية حتى أن الرجل كان ليخرج الزكاة من أمواله فيبحث عن الفقراء فلا يجد من في حاجة إليها, وبالمقابل تركت النخبة السياسية المحلية اليوم أكثر مليون طفل يتيم ومُشرد بلا  مأوى, وأكثر من مليون بين قتيل ومفقود, وأكثر من أربع ملايين مُهجر (داخل وخارج الوطن), ولا ندري هل كانت ميزانية دولة عمر بن عبد العزيز بلغت أكثر من 140 مليار دولار, أو كان عمر بن عبد العزيز يمتلك ثاني احتياط نفطي بالعالم, ولا ندري هل كانت عائدات دولة بدائية تقليدية متواضعة, كالدولة الأموية في عصر الجوع والحياة البدائية البسيطة يكون ريعها وعائدتها أكثر بكثير من عائدات دولة ديمقراطية بشرت بالحرية والخلاص من عهد القمع والاستبداد.
  والمعلوم إن الديمقراطية المزعومة يجب أن تقوم على المواطنة والوحدة والعدالة الاجتماعية, أما العدالة الاجتماعية فهي “القتيلة الشهيدة” أمام عمليات النهب والسلب والمحاصصات الطائفية المقيتة, وتحقيق العدالة الاجتماعية لا يمكن أن يتم في ظل سرقة مليارات الدولارات والسطو على البنوك وهدر الأموال الطائلة على المشاريع الوهمية وبذخ المال الحرام على المحروقات والأطعمة والكماليات والمشتريات الشيئية للمسؤولين والنواب والوزراء الكرام وذويهم الكرام أيضاً.
  لقد حقق عمر بن عبد العزيز تنميته الاقتصادية, وسد النقص, تجاوز عجز ميزان المدفوعات في دولته, دون توفر البترول أو المعادن الحيوية, ولم تكن الدولة الإسلامية وقتئذ تمتلك ثاني احتياطي للنفط بالعالم, ولا تُصددر يومياً ثلاثة ملايين برميل يومياً, ولا تمتلك مساحات زراعية شاسعة ومقننة, أو الاعتماد على التقنيات الحديثة للزراعة والري, ولم تعتمد على المساعدات أو الإعانات الدولية, التي لا تجئ إلا بصفة تكبيل للقيود الاقتصادية ومن ثم للتبعية السياسية, لكن الناس كانوا يتوسلون الفقراء كي يقبلوا الزكاة دون أن يجدوا فقيراً واحداً, في حين نقف اليوم على حافة أرقام مرعبة من الفقراء واليتامى والنازحين.
   فلا يُخفى على أحد إن الدكتور العبادي أثبت إنه رجل الإصلاحات العسكرية, والتي نأمل أن تتبعها إصلاحات سياسية أكثر جُرأه, والتي نأمل أن تطول من شأفة الخلاف السياسي المصبوغ بمسحة دينية لا تخلو من شائبة الطائفية, وإعادة بناء مؤسسة عسكرية تحترم الجندية وتعطي لها مكانتها التاريخية, بعد إن شوه سمعتها الفضائيون القادمون من كوكب المريخ, لكن أهم ما يمكن أن يحقق مشروع الدكتور العبادي هو تفعيل معادلة “الراقب والرقيب”, ومحاسبة المقصرين, وصناعة موظف يضع رأس حكمته مخافة الله, لأن عمر بن عبد العزيز لم ينتصر بالتقنيات التكنولوجية أو اقتصاد السوق والسوق (الحرة) المشتركة والحوكمة ومفاهيمها العصرية, إنما حقق تنميته بالعدالة والانسانية ومخافة الله.
 كان بن عبد العزيز شديد المحاسبة لنفسه وَرِعًا تقيًا، كان يقسم تفاحًا أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من أشترى له تفاحًا. وعاد إلى البيت وما عاد معه بتفاحة واحدة، فقال لفاطمة:  في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت: لا، وقصت عليه القصة (قصة ابنه) فَذَرفت عيناه الدموع وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ, والقصة هذه قريبة جدا من قصص أعضاء مجلس النواب العراقي اليوم ومن السياسيين النائمين تحت مظلات النهب والسلب والعبث والهدر بالمال العام, فهي لا تختلف شيئاً, مع فارق إن عمر بن عبد العزيز كان يضع الحكمة مخافة الله, في حين كان سياسينا يضعون رأس الحكمة مخافة اللأت (!), وأن الفش في إقرار موازنة 2014 لبذخها صُرفت على الحفلات الليلية والمواخير, وعلى فواتير رصيد الهواتف النقالة لأبناء البرلمانيين, للسيارات الفيراري الفارهة في عمان واسطنبول, وللعمليات الجراحية التي قام بها البعض من النواب لتصليح العطلات الداخلية, وسرقة أسرة المرضى, ونهب أموال النازحين, وسرقة رواتب الجنود وتسريحهم في بيوتهم, فكيف يتحقق معدل النمو ويتصحح مسار التنمية ويُسد النقص في ميزان المدفوعات, والعدالة غائبة, والفساد يفتل ذراعيه وشاربيه في كل مؤسسة ودائرة حكومية.
  لا جدوى من إقرار موازنة 2015 لأنها لن تغير حالنا للأحسن, فهي لن تكون إلا عملية ترقيع (فتوق) موازنة 2014, خصوصاً في ظل زيادة نثريات وتخصيصات المالية للمسؤولين مع خفض حجم الانفاق على الخدمات وعلى الموظفين الصغار, وايقاف صرف سُلم الرواتب الجديد, في ظل تزايد حجم العنف الدائر, واستنزاف الطاقة المادية والبشرية, فبلا شك ستكون موازنة 2015 هي رتق لشقوق العام الفائت, فأين اللذة من ذا الفقر!
   فالدكتور العبادي أمام عقبة وحيده إن تجاوزها حقق نهضته, أو على الأقل قلص حجم هوة الشحاذين والمتسولين والبؤساء, والمحتاجين, وصحح مسار العملية الاقتصادية المحلية ألا وهي تصفية شبكات النهب والهدر للمال العام, وإعادة ترميم العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجميع, وترشيق رواتب ومخصصات المسؤولين, وإعادة ترتيب أوراق الأنفاق وسلم الاولويات التي تدفع إلى التنمية المستدامة, فهو أجدر بهذه المهمة, فمن الصعب علينا تحقيق عائدات دولة القرن السابع الميلادي, لكننا قادرون على سد النقص الحاصل في دولة من رعيل القرن الحادي والعشرين!
  فالعدالة الاجتماعية ليست نبوءة أو معجزة من السماء يصعب الإتيان بها, لكنها تُريد أُناس صادقين لحمل هذه المهمة من أجل عراق حضاري, فالمهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة.