كانَ آباؤنا يعملونَ لساعاتِ دوامِهم فقط، ويحصلون على منزلٍ كافٍ لنا، ويتمتعونَ بأيامِ الإجازة، ويخرجونا لمدنِ الألعابِ وحدائقَ الحيواناتِ بنهايةِالأسبوع، وكانوا يملكونَ سيارة متواضعة وهم في الثلاثينات من أعمارهم، ثم سيارة أفضل فأفضل مع تقدمهم بالسن، وتلك هي الحياة الطبيعية.
لم نكنْ في معظمِ بلدانِ العالم نحملُ هماً كبيراً للأمراض الاعتيادية، فالمستشفياتُ موجودة، والأمراض ليست غريبة أو غير مألوفة، كذلك، فالتعليم متاح ومجاني أو رخيص، والوظائف موجودة لنا في حال التخرج، أي: ليست هناك أية مشاكل!
وبالنسبة للكسبة، فأذكر أن مَحال الحرفيين والتجار كانت تُغلقُ في وقت الظهيرة، لأن أصحابها كانوا يذهبون للغداء والصلاة والنوم، ولايفتحونها إلا وقت العصر وقد استعادوا نشاطهم بعد استكانة شاي وقطعة كعك.
وهكذا، وقبل عصر العولمة، كان آباؤنا يعيشون نصف حياتهم للعمل، والباقي لشؤونهم وعوائلهم، ثم يتقاعدون براتبٍ كاف، ويقضون باقي العمر في منازلهم الكافية مساحةً، ويشرفون على تزويج أبنائهم بعدهم.
أما اليوم..
فكل شيء أصبح يحتاج الضعف من الجهد والوقت والمال، فأنت لن تملك منزلاً مريحاً بسهولة في عمر الثلاثين، ولن تكفيك وظيفة واحدة لتمنحك مايكفيك من العائد، ولن تحصل على خدمة صحية مجانية، وستنفق الكثير على تعليم أبنائك في المدرسة والجامعة، حتى الدواء الذي كنت تشتريه بالفلسان صار بعشرات الدولارات وأحياناً بالمئات، عليك أن تعمل ضعف ساعات عمل والدك في وقته، عليك أن تتحرك أسرع وتجري اتصالات أكثر في اليوم الواحد، وكل عمل إضافي يعني المزيد من الضغوط والمشاكل.
لن تصل لعملك بنفس الوقت الذي كان يصل به والدك لعمله، فقد اكتظت الشوارع وضاقت المدن، لن تشعر بحرية العيش في شقتك كما نَعِمَ أبوك بالعيش في منزله الواسع المستقل ذو الحديقة الغنّاء، ستحتاج لترتيب أثاثك بمساحة أصغر، لن تنعم بقيلولة الظهيرة، فالعمل بحاجة للوقت الإضافي، لن تغلق دكانتك فالزبائن سيذهبون لمن يفتح أكثر، والبدلاء صاروا أكثر، لن يكفيك راتبٌ واحد فكل ساعة عمل تعني عائداً أكبر.
تخرُّجكَ من الجامعة سيرمي بك على قارعة العاطلين على عكس والدك الذي وجد وظيفته بعد تخرجه مباشرة، عليك أن تبذل جهداً مضاعفاً من أجل الحصول على وظيفة، قد تعمل حتى في يوم عطلتك عملاً آخر، أو ستعمل لساعات بعد دوامك الأصلي، لن يكون لديك الوقت لأخذ أبنائك لمدن التسلية، وحتى إن فعلت، فقد تكون عينك في جهاز هاتفك لعل زبوناً سيطلب خدماتك في لحظةٍ ما، وهكذا.
هذا ما تفعله سرعة التضخم مقابل بطء التنمية، هذا ماتفعله الضرائب المتراكمة، تلك التي تدفعها بشكلٍ مباشرٍ تعرفه، أو غير مباشرٍ لاتعرفه، هل تسائلت يوماً لماذا تفرغ محفظتك بسرعة من المال رغم أنك لم تشترِ شيئاً ذو قيمة؟
لقد ذهبت نقودك للضرائب، فقنينة الماء التي تشتريها بدولار سعرها الأصلي ٦٠ سنتاً، واحسب الآن كم تدفع على كل سلعةٍ أو خدمة تشتريها خلال اليوم كضريبة مبطنة!
راتبك البالغ ألف دولار الذي تتقاضاه منذ ٤ سنوات، نعم لا زال ألف دولار، لكنه بقيمة ٧٠٠ دولار في الواقع، فقد أخذ منه التضخم مأخذاً، زد عليه الضرائب، أنت تقبض ٤٠٠$ فقط ياصديقي!!
إلى جانب هذا كله، ازدادت الكماليات، وزاد الترويج لها، فلم تكن والدتكِ بحاجة لإنفاق ألف دولار لتجمل نفسها، لكنكِ تنفقينها الآن، لم تكن تشتري عشر حقائب نسائية في ثلاثة أشهر، كما تفعلين الآن، وأنت، لم يكن والدك يبحث عن ساعة ماركة، وجهاز فيب، وأيربود، وبلاي ستيشن فايف، لكنك تنفق من أجل هذا كله الآن!
هل تذكر أن والدك انزعجَ ذات مرة من فاتورة المياه أو الكهرباء أو الهاتف؟ أراهن أنه لم يفعل، فقد كان كل شيءٍ رخيصاً ولا يكاد يذكر أصلاً!
لا شك أننا نعيش كالجرذان الآن، مكدسون فوق بعضنا في مبانٍ سكنية ذات طوابق، نسابق الوقت والعمر لنكمل احتياجاتنا، نخاف المرض والإصابة، ونحمل هم تعليم الأبناء، ونخشى من مستقبلٍ نشيخ فيه بلا موردٍ ثابت، وحين نقارن، نجدُ أننا في العمر الذي تقاعد به آباؤنا لا زلنا في ماراثون العمل، وقد نبقى كذلك لآخر العمر، بل نخشى أحياناً أن لا يكفي العمر لتأمين احتياجات الأبناء حتى!
أي عالمٍ يضيق على البشر هكذا جيلاً بعد جيل، حتى تتزاحم الأسواق بالمتسولين، وتحتشد مستشفيات الأمراض النفسية بالنزلاء، وتكتظ الصفوف بالتلاميذ المجهولي المصير، ويتصاعد دخل الدجالين والمشعوذين، بعد أن بدأ حبل الأمل بالواقع يفلت العروة تلو العروة، فلا تبقى سوى عروة الوهم والأمل الغيبي..!
ألا ترى أن الحوادث ازدادت، وخشية البشر من العقاب قلّت؟ ليست تلك شجاعةٌ منهم، بل أن فقدان الأمل يدفعُ المرء لأسوأ التصرفات، لذا صرت ترى العنف في كل مكان، والغضب في نفوس البشر، والكُرهذ٠ في أعلى مستوياته..
بعد ٦٦ عاماً على هذا المقال، سيكون قد مضى جيلان من الزمن من بعدنا، سينتبه أحدهم ذات يوم لحاله حينئذٍ ويكتب مثل هذا المقال، وسيحسدنا حينها على مانحن فيه الآن!!